قال تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [سورة الحج:67-69].
يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكا.
قال ابن جرير: يعني: لكل أمةِ نبيٍّ منسكا، قال: وأصل المنسك في كلام العرب: هو الموضع الذي يعتاده الإنسان، ويتردد إليه، إما لخير أو شر، قال: ولهذا سميت مناسك الحج بذلك، لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها.
فإن كان كما قال من أن المراد لكل أمةِ نبيٍّ جعلنا منسكا فيكون المراد بقوله: فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ أي: هؤلاء المشركون، وإن كان المراد: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا جعلا قدريا - كما قال: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [سورة البقرة:148] - ولهذا قال هاهنا: هُمْ نَاسِكُوه أي: فاعلوه، فالضمير هاهنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق، أي: هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته، فلا تتأثر بمنازعتهم لك، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق؛ ولهذا قال: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ، أي: طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود.
قوله - تبارك وتعالى -: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ المنسك فيها لغتان "منسِك" و"منسَك"، وفيها قراءتان متواترتان – أيضاً - فالمنسِك هذه لغة أهل الحجاز، والمنسَك هذه لغة لبعض العرب - لغة أسد -، وبالكسر قرأ بها حمزة والكسائي، وقراءة الجمهور بالفتح، كما نقرأ "منسَك"، وهذه اللفظة تطلق بإطلاق أخص، وتطلق بإطلاق أعم، وتطلق على معانٍ بين بين، فأخص إطلاقات هذه اللفظة أن المنسَك بمعنى الذبيحة، وإذا فسر بالمكان فيكون مكان الذبح خاصة، مكان للقرابين، مكان للذبائح، تقول: هذه نسيكة يعني الأضحية والهدي، ما يذبح للتقرب، وعلى سبيل التعبد يقال له ذلك وهذا المعنى صحيح لا إشكال فيه أنه يطلق على هذا المعنى الخاص، ويطلق على معنى أعم وهو التعبد، فيقال: فلان متنسك، فلان ناسِك، فهذا معنى عام، والنسك يطلق على العبادة بإطلاق لا يختص بنوع منها، كما أنه يطلق على معنى بين بين وهو أعمال الحج أو العمرة بما فيها الهدي، فيقال: أحكام المناسك، وقوله - تبارك وتعالى -: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا من أهل العلم من فسره بالمكان فقال: أي متعبَّداً، تفسيراً له بالمعنى الأعم، يعني أنهم يقصدونه ويتعبدون فيه، ومن فسره بالمعنى الأخص بالذبح قال: منسك أي: مكان يتقربون به إلى الله بالذبائح، ومن قال: إنه مصدر لا اسم مكان فسره بالشريعة لِكُلِّ أُمَّةٍ أي: لكل قبيلة من الناس، أو جيل، أو طائفة جعلنا منسكاً يعني شريعة، فالذين كانوا في زمن موسى ﷺ كان ذلك بالنسبة إليهم هو التوراة، ثم بعد ذلك بعث الله عيسى فكان الإنجيل مع تعبدهم بالتوراة، ثم بعث محمداً ﷺ فكان منسكهم هو القرآن، فهذا معنى ذكره بعض أهل العلم تفسيراً له بالمصدر لا أنه اسم مكان، واحتجوا بأنه قال: جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ولم يقل: ناسكوه فيه، ولو كان اسم مكان لقال: هم ناسكون فيه، وإنما قال: هُمْ نَاسِكُوهُ أي: جعلنا لهم شريعة، وهُمْ نَاسِكُوهُ أي: متعبدون فيها، وبعضهم فسره بالعيد وهذا لا يعارض بعض ما سبق؛ لأن المكان الذي يعتاده الناس بخصوصه، ويترددون عليه من أجل التقرب فيه بلون من العبادة سواء الذبح أو الحج إليه أو نحو هذا يقال له: عيد، ولهذا سأل النبي ﷺ ذلك الرجل الذي نذر أن يذبح إبلاً في بوانة فسأله: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟[1]، ولهذا يقال: إن عرفة عيد مكاني، يجتمع فيه الحجاج في مكان معين، فالأعياد منها ما هو مكاني، ومنها ما هو زماني، مثل عيد الفطر لا يختص بمكان فهو عيد زماني، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - نقل كلام ابن جرير، وابن جرير له كلام قبل هذا، ونقل الحافظ ابن كثير بعض كلامه بمعناه، وليس بحروفه، والأصل أن يكون النقل بالحرف إلا أن ينبه على أن هذا معنى كلام ابن جرير.
قال ابن جرير - رحمه الله -: "وقوله: فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ يقول - تعالى ذكره -: فلا ينازعنك هؤلاء المشركون بالله يا محمد في ذبحك ومنسكك بقولهم: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله؟ فإنك أولى بالحق منهم، لأنك محق، وهم مبطلون"[2].
وقال رحمه الله: "وقوله: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا يقول: لكل جماعةِ قومِ هي خلت من قبلك جعلنا مألفا يألفونه ومكانا يعتادونه لعبادتي فيه، وقضاء فرائضي، وعملا يلزمونه، وأصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شر، يقال: إن لفلان منسكا يعتاده: يراد مكانا يغشاه ويألفه لخير أو شر. وإنما سميت مناسك الحجّ بذلك، لتردّد الناس إلى الأماكن التي تُعمل فيها أعمال الحجّ والعُمرة، وفيه لغتان: "مَنْسِك" بكسر السين وفتح الميم، وذلك من لغة أهل الحجاز، و "مَنْسَك" بفتح الميم والسين جميعا، وذلك من لغة أسد، وقد قرئ باللغتين جميعا.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا أيّ المناسك عَنى به؟ فقال بعضهم: عنى به: عيدهم الذي يعتادونه.
وقال آخرون: عَنى به ذبحا يذبحونه، ودما يُهريقونه.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: عني بذلك إراقة الدم أيام النحر بمِنى، لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله ﷺ كانت إراقة الدم في هذه الأيام، على أنهم قد كانوا جادلوه في إراقة الدماء التي هي دماء ذبائح الأنعام بما قد أخبر الله عنهم في سورة الأنعام، غير أن تلك لم تكن مناسك، فأما التي هي مناسك فإنما هي هدايا أو ضحايا، ولذلك قلنا: عَنى بالمنسك في هذا الموضع الذبح الذي هو بالصفة التي وصفنا"[3].
وقال: "وقوله: فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ يقول - تعالى ذكره -: فلا ينازعنك هؤلاء المشركون بالله يا محمد في ذبحك ومنسكك بقولهم: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله؟ فإنك أولى بالحقّ منهم، لأنك محقّ وهم مبطلون"[4].
وقال الشنقيطي - رحمه الله -: "قوله تعالى: لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ الأظهر في معنى قوله: مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ أي متعبداً هم متعبدون فيه، لأن أصل النسك التعبد، وقد بين تعالى أن منسك كل أمة فيه التقرب إلى الله بالذبح، فهو فرد من أفراد النسك، صرح القرآن بدخوله في عمومه، وذلك من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك.
والآية التي بين الله فيها ذلك هي قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا [سورة الحج:34]، وقوله: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً في الموضعين قرأه حمزة والكسائي بكسر السين، والباقون بفتحها"[5].
فابن جرير حملها على المعنى الأخص، والشنقيطي حملها على المعنى الأعم، وجعل التقرب بالذبح أحد الأنواع الداخلة تحته.
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: ولهذا قال: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ أي: طريق واضح مستقيم، موصل إلى المقصود.
وهذه كقوله: وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ [سورة القصص:87].
- رواه أبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب ما يؤمر به من الوفاء عن النذر، رقم (3313)، وأحمد في المسند، برقم (15456)، وقال محققوه: حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف، أبو الحويرث حفص من رجال "التعجيل" انفرد بالرواية عنه عبد الصمد بن عبد الوارث، ولم يؤثر توثيقه عن أحد، لكنه قد توبع، وعبدالله بن عبدالرحمن بن يعلى بن كعب: وهو الطائفي، مختلف فيه، قيل: لم يسمع من ميمونة، بينهما يزيد بن مقسم الثقفي، وقال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (6/874) برقم (2872): "و إسناده صحيح رجاله رجال الشيخين".
- جامع البيان في تأويل القرآن (18/680).
- جامع البيان في تأويل القرآن (18/679).
- جامع البيان في تأويل القرآن (18/680).
- أضواء البيان (5/298).