الأحد 11 / ذو الحجة / 1446 - 08 / يونيو 2025
ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَٰمًا فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَٰمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ خَلْقًا ءَاخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَٰلِقِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ولهذا قال ههنا: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [سورة المؤمنون:14] أي: ثم صيرنا النطفة وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل وهو ظهره، وترائب المرأة وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى الثندوة، فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة".

قال بعض أهل العلم: إن خروج الماء من بين الصلب والترائب راجع إلى الرجل فحسب، يعني: صلب الرجل وترائب الرجل، وهذا قال به جماعة من أهل العلم من المتقدمين من السلف.

وقوله: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ [سورة المؤمنون:13] المقصود بالقرار المكين هو الرحم فهو في موضع يحصل به حفظ وصيانة هذا الجنين، ولذلك يمكن أن يذكر هنا ما يذكره أصحاب التفسير العلمي في هذا المقام فهو لا يعارض ظاهر الآية، ولا يعارض أقوال السلف حينما يصفون عظام الحوض بأنها أقوى العظام، وموضع الرحم فيها، ثم ما يذكرون من أربطة، وما يذكرون من أن الجنين لا تأتيه أمور تؤثر عليه.

وقوله: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [سورة المؤمنون:14] قيل لها علقة؛ لأنها تعلق بجدار الرحم، وقوله: فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا [سورة المؤمنون:14] مضى الكلام على هذا في عدد من المناسبات بأن الفاء للتعقيب المباشر، وعبر بها هنا مع أن ما بين كل مرحلة ومرحلة، أو طور وطور؛ أربعون يوماً؛ لأن المباشرة في كل شيء بحسبه، وهذا سبق قريباً عند قوله - تبارك وتعالى -: فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [سورة الحج:63].

"قال عكرمة: وهي دم فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [سورة المؤمنون:14] وهي قطعة كالبضعة من اللحم لا شكل فيها، ولا تخطيط".

يعني: بقدر ما يمضغ، لحمة صغيرة، هذه هي المضغة، بقدر ما يمضغ، ولا حاجة للتكلف في هذا أن يقال: إنها بصورة المضغة، وكأنها قد مضغت، وفيها صورة أسنان كما يذكر أصحاب التفسير العلمي أو الإعجاز العلمي، ليس هذا المراد بكلام العرب حينما يقال: هذا بقدر مضغة أو مضغة من الطعام أو نحو ذلك.

"فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا [سورة المؤمنون:14] يعني: شكلناها ذات رأس، ويدين، ورجلين، بعظامها، وعصبها، وعروقها".

هذه قراءة الجمهور قراءة ابن عامر ورواية عن عاصم، ورواية شعبة عظماً ذات يدين، ورجلين، بعظامها، وعصبها، وعرقها، ويمكن أن يذكر كلامهم في أن البداية أنه يكون العظام على صورة كالغضاريف، ثم بعد ذلك تُكسى اللحم.

"فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا [سورة المؤمنون:14] أي: وجعلنا على ذلك ما يستره، ويشده، ويقويه ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ [سورة المؤمنون:14] أي ثم نفخنا فيه الروح فتحرك، وصار خلقاً آخر ذا سمع، وبصر، وإدراك، وحركة، واضطراب".

هذا تفسير الخلق الآخر، فكان قبل ذلك لا حياة فيه، ثم بعد ذلك نفخ فيه الروح فصار كائناً حياً، وبعضهم يقول: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ بعدما كان بهذا الضعف مضغة، ثم صار عظاماً، ثم كُسي لحماً، وأنشأناه خلقاً آخر بتكميل قواه، حتى صار بصورة أخرى، وحال أخرى، وعلى كل حال الأقرب - والله تعالى أعلم - أن قوله: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ أنه بنفخ الروح والحركة صار خلقا آخر ذا سمعَ وبصرَ، وتحرك واضطرب، وقبل ذلك كان جماداً لا حياة فيه، فصار إنساناً سوياً.

"وقال العوفي عن ابن عباس ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ يعني: ننقله من حال إلى حال إلى أن خرج طفلاً ثم نشأ صغيراً، ثم احتلم، ثم صار شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، ثم هرماً".

هذه الرواية لا تصح عن ابن عباس - ا - فالله - تبارك وتعالى - ذكر أنه بعد النطفة، والمضغة، والعظام التي كساها لحماً أنه أنشأ خلقاً آخر، وليس معنى ذلك أنه يكون شاباً ثم شيخاً، وإنما تحول إلى شيء آخر، فالذي يحصل بعد أن تُكسى العظام لحماً أن يصور هذا بصورة إنسان، ثم تنفخ فيه الروح فيتحول إلى إنسان، ولا يقال له إنسان قبل نفخ الروح، فالإنسان هو مجموع الروح، والجسد.

"روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم ليُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وهل هو شقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيختم له بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها[1] أخرجاه.

وقوله: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [سورة المؤمنون:14] يعني حين ذكر قدرته، ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال، وشكل إلى شكل؛ حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السوي الكامل الخلق قال: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ".

هل المراد بالخلق التصوير ويكون المعنى: أحسن المصورين، والمشكلين، أو المقصود به أحسن المقدرين، أو المقصود به أحسن الصانعين؟ فالخلق يأتي أحياناً بمعنى الصنع، ويأتي بمعنى الإيجاد، والإنشاء، ويأتي بمعنى التقدير، ويأتي بمعنى التصوير كقوله - تبارك وتعالى -: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [سورة الحشر:24] فمن أهل العلم كابن جرير - رحمه الله -، وسبقه إلى هذا القول مجاهد، فقال: "أحسن الخالقين أي أحسن الصانعين"، بينما بعض أهل العلم يقول: أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ يعني: أحسن المقدرين، ففسر الخلق بمعنى التقدير، وهذا الذي ذهب إليه العلامة الشنقيطي - رحمه الله -.

ومن المعلوم أنه لا يمتنع أن يوصف المخلوق بأنه يخلق، فيقال: إن كان المقصود به الإيجاد من العدم هذا لا يكون إلا لله .

وإن كان المقصود بالخلق التقدير فقد يوصف بهذا، ومنه قول الشاعر:

فلأنتَ تفرِي ما خلقتَ وبعضُ القومِ يخلقُ ثم لا يفرِي

فقوله: تفري ما خلقتَ يعني: أنك تقدّر ما خلقت، أي: ما قدرت، فأطلق الخلق على التقدير.

ويطلق الخلق على التصوير، والتشكيل، ومنه قوله - تبارك وتعالى -: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [سورة آل عمران:49]، وقوله: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [سورة المائدة:110] فوصفه بهذا.

وبعض الناس يستوحش من هذه العبارة إذا استعملها الإنسان، مثلاً إذا قال: دعونا نخلق أفكاراً، أو نخلق فكرة؛ أو نحو ذلك، وهذا لا إشكال فيه شرعاً إذا قصد به التقدير، أو قصد به التصوير، والتشكيل.

فالمعنى في قوله: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ يحتمل، وكل ذلك يصدق على الله أنه هو المقدر، والصانع الموجد من العدم، لكن الإشكال الذي حمل بعض أهل العلم على تفسيره بالمقدرين لربما يكون هو أن أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ معناها أن الخالق والمخلوق اشتركا في صفة، فكيف يقال للمخلوق بأنه يخلق؟ ففسر بالتقدير، لكن لو فسر بالمصور، والصانع؛ فلا إشكال.

  1. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (4/111)، برقم: (3208)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته، وسعادته (4/2036)، برقم: (2643).