"قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة المؤمنون:1-11].
قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أي: قد فازوا، وسعدوا، وحصلوا على الفلاح، وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف.
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: خَاشِعُونَ: "خائفون ساكنون"، وكذا روي عن مجاهد، والحسن، وقتادة، والزهري.
وعن علي بن أبي طالب : "الخشوع: خشوع القلب"، وكذا قال إبراهيم النخعي.
وقال الحسن البصري: "كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح".
والخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين كما قال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس عن رسول الله ﷺ أنه قال: حُبب إلي الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة[1]".
قوله -تبارك وتعالى-: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ الخشوع سبق الكلام عليه مفصلاً في الأعمال القلبية، وذكرت هناك أن من السلف من فسر الخشوع بجزء معناه، أن بعضهم فسره ببعض آثاره، ومقتضياته؛ كالذي يقول: "سكون الجوارح" فهذه من آثار الخشوع, وبعضهم يفسر الخشوع بسببه، وعلى كل حال لا شك أن الخشوع منبعه، ومصدره، ومنشؤه؛ من القلب، تلك الخشية التي تنبعث وتظهر آثارها على الجوارح، فيظهر التواضع، والسكون، ولهذا فإن بعضهم يفسر الخشوع بالسكون، وبعضهم يقول: هو التواضع؛ ومنه قوله - تبارك وتعالى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ... [سورة فصلت:39]، فالأرض الخاشعة هي الهامدة التي لم تتحرك بالنبات، ولم تربُ، فإذا أنزل عليها المطر اهتزت، وتحركت بالنبات، وارتفعت؛ سواءً كان هذا الارتفاع في نفس التربة لما يوجد من تحرك النبات في داخلها لتنشق عن مسمار النبات، أو كان ذلك بارتفاع النبات؛ فيكون ذلك ارتفاعاً في الأرض.
ومعنى "أفلح" أي: ظفر بالمطلوب، ونجا من المرهوب، ويطلق الفلاح على البقاء الأبدي السرمدي، وعليه يكون المعنى في قول الشاعر:
لو أنّ عبداً مُدرِكُ الفلاحِ | لناله مُلاعِبُ الرماحِ |
فركوب الأخطار لا يقدم الأجل، ومن دخل الجنة فإنه حصل له الأمران، يكون قد ظفر بالمطلوب، ونجا من المرهوب، وحصل له البقاء الأبدي السرمدي.
وأول وصف ذكره الله - تبارك وتعالى -: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [سورة المؤمنون:2] وهذا يقتضي أنهم بالضرورة يحافظون عليها، فالذي لا يصلي لا يكون قد حقق الخشوع، ولا يكون مفلحاً.
وقد بدأ بصفات المفلحين فيما يتصل بالصلاة، وختم بذكر الصلاة فقال: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [سورة المؤمنون:9].
- رواه النسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء (7/61)، برقم: (3939)، وأحمد (19/305)، برقم: (12293).