الأحد 24 / محرّم / 1447 - 20 / يوليو 2025
وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُۥٓ ءَايَةً وَءَاوَيْنَٰهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [سورة المؤمنون:50] يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم - عليهما السلام - أنه جعلهما آية للناس أي: حجة قاطعة على قدرته على ما يشاء، فإنه خلق آدم من غير أب، ولا أم، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى، وقوله: وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [سورة المؤمنون:50] قال الضحاك عن ابن عباس - ا -: الربوة المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وقتادة.

قال ابن عباس: وقوله: ذَاتِ قَرَارٍ يقول ذات خصب وَمَعِينٍ يعني: ماء ظاهراً، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وقتادة، وقال مجاهد: ربوة مستوية، وقال سعيد بن جبير ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ استوى الماء فيها، وقال مجاهد، وقتادة وَمَعِينٍ الماء الجاري".

الربوة معروفة وهي المكان المرتفع، وهذا يكون أشرف المحال، وأطيب المحال التي يحصل فيها النبات، وهي أحسن محل ينزل فيه الإنسان، أحسن من الأماكن المنهبطة كالأودية، ونحوها.

وقوله: ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [سورة المؤمنون:50] يمكن أن يفسر القرار بالمستقَر، أي: يستقر عليها ساكنوها، وبعض أئمة اللغة يقول: المعين هو الماء الجاري من العيون، وبعضهم يقول: إن أصل ذلك من مَعَنَ الماءُ إذا جرى، فالماء الجاري يقال له الماء المعين، مَعَنَ الماء فهو معين، ويقال: ممعون بالماء الجاري، والماء الجاري لا شك أنه أطيب من الماء الراكد من كل وجه، في طعمه، وفي شكله، وفي تركيبه، وفي دفعه للعوارض بأنواعها من النجاسات، وما يكدره، أو يغيره، أو ما يقع فيه حتى من الأمور غير النجسة، فإن الماء الذي يجري يدفع ذلك جميعاً وهذا أمر لا يخفي.

"وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في قوله: وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [سورة المؤمنون:50] قال: "هي دمشق"، قال: وروي عن عبد الله بن سلام، والحسن وزيد بن أسلم، وخالد بن معدان نحو ذلك.

وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ قال: "أنهار دمشق".

وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ [سورة المؤمنون:50] قال: "عيسى ابن مريم وأمه حين أويا إلى غُوطَة دمشق وما حولها".

وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة في قول الله - تعالى -: إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [سورة المؤمنون:50] قال: "هي الرملة من فلسطين".

 وأقرب الأقوال في ذلك ما رواه العوفي عن ابن عباس - ا - في قوله: وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [سورة المؤمنون:50]، قال: "المعين الماء الجاري، وهو النهر الذي قال الله - تعالى -: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [سورة مريم:24]".

وكذا قال الضحاك وقتادة: "إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [سورة المؤمنون:50] هو بيت المقدس"، فهذا - والله أعلم - هو الأظهر؛ لأنه المذكور في الآية الأخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وهذا أولى ما يفسر به، ثم الأحاديث الصحيحة، ثم الآثار".

تَحْتَكِ سَرِيًّا أي: مثل الجدول يجري فيه الماء، وبعد أن ذكر الله - تبارك وتعالى - الشراب ذكر الطعام فقال: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [سورة مريم:25]، وإن كان بعضهم يقول: إن قوله: سَرِيًّا أي: السيد، يقال فلان سَريّ، وهم سَراة، يعني الناس السادة وما شابه ذلك يقال لهم هذا، فيكون ذلك يرجع إلى عيسى ﷺ، ولهذا يقولون في قوله - تبارك وتعالى -: فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا [سورة مريم:24] يعني عيسى ﷺ، وبعضهم يقول: جبريل وذلك لما قالت: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا [سورة مريم:23].

فقال لها: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [سورة مريم:25] وجذع النخلة معروف من أصلب الجذوع، ومن أقساها، ومن أشدها، ولهذا فرعون لما توعد السحرة لما آمنوا لم يقل: لأصلبنكم في جذوع الأشجار، بل قال: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه:71]، وذلك لشدة جذع النخلة، والإنسان القوي لو هز جذع النخلة لا يهتز، ولكن من باب التسبب.

ألم ترَ أن الله قال لمريم هُزي إليك الجذعَ يسّاقط الرطبْ
ولو شاء أن تجنيه من غير هزِّهِ جنتهُ ولكنْ كلُّ شيء له سببْ

 وعلى كل حال ابن جرير - رحمه الله - يقول: "رَبْوَةٍ أي: أرض منبسطة عليها ماء ظاهر".