"قوله: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ [سورة المؤمنون:51-56] يأمر تعالى عباده المرسلين - عليهم الصلاة والسلام أجمعين - بالأكل من الحلال، والقيام بالصالح من الأعمال، فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح، فقام الأنبياء - عليهم السلام - بهذا أتم القيام، وجمعوا بين كل خير قولاً، وعملاً، ودلالةً، ونصحاً، فجزاهم الله عن العباد خيراً.
وقال سعيد بن جبير والضحاك: "كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ [سورة المؤمنون:51] يعني: الحلال.
وفي الصحيح: وما من نبي إلا رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة[1]، وفي الصحيح: إن داود كان يأكل من كسب يده[2].
وقد ثبت في صحيح مسلم، وجامع الترمذي، ومسند الإمام أحمد واللفظ له عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [سورة المؤمنون:1]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [سورة البقرة:172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب!! فأنّى يستجاب لذلك[3]".
العمل الصالح مما يعين على أكل الطيبات، وقد قال الله - تبارك وتعالى -: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [سورة المؤمنون:51]، ولذلك لا تكاد تجد هذا عند المرابين، وعند الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، لا يُعانون على العمل الصالح، والله يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة البقرة:168]، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [سورة البقرة:172] فذكر الشكر وهو يشمل ألوان العبادة القولية، والفعلية، وهذا من المعاني اللطيفة التي قد تفهم من مثل هذه الآيات، فالعمل الصالح مما يعين على أكل الطيبات، وعامة أهل التفسير يقولون: المراد بالطيبات الحلال، وبعضهم يقول: ما يستطاب، ويستلذ، وهذا لا يصح أن يفسر به على سبيل الإفراد، والاجتزاء؛ لأن ما يستلذ قد يكون محرماً، ولكن من أهل العلم من يجمع بين القولين ويقول: الطيب هو الحلال المستلذ، فلو أكل الإنسان الخبز المتعفن، وثبت أنه لا يضره؛ فليس بحرام، ولكنه غير طيب.
إذا قيل الحلال فدخل فيه كل شيء حلال، لكن لا يعتبر كل الحلال من الطيبات، وقد سبق الكلام على هذه المسألة عند قول الله - تبارك وتعالى -: فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا [سورة الكهف:19] فبعض أهل العلم قال: أَزْكَى أي: الذي أبعد عن الشبهة، وليس فيه ما يخالطه من محرم، وبعضهم يقول: الطيب اللذيذ.
- رواه البخاري، كتاب الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط (3/88)، برقم: (2262).
- رواه البخاري، كتاب البيوع، باب كسب الرجل، وعمله بيده (3/ 57)، برقم: (2073)، بلفظ: أنّ داود النبي كان لا يأكل إلا من عمل يده.
- رواه مسلم، كتاب الكسوف، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (2/703)، برقم: (1015).