قوله - تبارك وتعالى -: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً هذه القراءة بكسر همزة "إنّ" يمكن أن يكون المعنى على الاستئناف المقرر لما قبله يعني: ذكر لهم جملة من الأمور فقال لهم: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة المؤمنون:51-52)] فيكون ذلك من جملة الأشياء التي ذكرها الله لهم، وخاطبهم بها؛ فيكون استئنافاً.
والقراءة الأخرى بالفتح، والتشديد وأنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً والمعنى كما قال بعض أئمة اللغة كالخليل بن أحمد: "هذا منصوب بنزع الخافض"، يعني: أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به، وتدينوا به.
وبعضهم كسيبويه يقول: إنه متعلق بما بعده وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ والفاء هنا مرتبة ما بعدها لما قبلها، والفاء مشعرة بالتعليل كما هو معلوم، وعلة التقوى لأن هذه أمتكم أمة واحدة - والله تعالى أعلم -.
ودين الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19] فلا يجوز لأحد أن يكفر بالله ويعبد غيره، ويتدين بدين غير دين الإسلام الذي شرعه لأنبيائه - عليهم الصلاة والسلام - قال تبارك وتعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا [سورة آل عمران:67].
قوله: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا [سورة المؤمنون:53] صارت كل طائفة على دين وملة لا يرضاها الله ، فتفرقوا في الدين، فصار هؤلاء يهوداً، وصار هؤلاء نصارى، وصار اليهود، والنصارى؛ على طوائف، وفرق يضلل بعضها بعضاً، ويكفر بعضها بعضا، وعندهم كنائس في العالم كثيرة جداً كل كنيسة لها صليب، وشعار، ودين، ومذهب، وعندهم من الخزعبلات، والخرافات، والبدع، والضلالات، والخيالات ما لا يُقادَر قدره، أضعاف ما عند جهال ومبتدعة هذه الأمة، واقرأ إن شئت في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" كيف يصنعون في الأعياد، ولو أن المسلمين استغلوا هذا، وعرفوه؛ لكن الانبهار بظاهر حضارتهم أعمى أبصار كثير من الناس عن هذه الجوانب، ولو استُغل هذا، وثُبتت هذه الأمور بينهم، وفُعّلت؛ لوقعت بينهم الحروب الدامية كما حصل في التاريخ، فقد وقعت الحرب بين الصرب والكروات وكلهم نصارى، لكن اختلفت مذاهبهم قبل حرب المسلمين في البوسنة، فكان الصرب يأخذون المرأة الكرواتية، ويقطعونها تقطيعاً في الشارع، فكان المسلمون يقولون آنذاك: هؤلاء نصارى مع نصارى؛ فكيف لو أنهم تسلطوا علينا ماذا سيصنعون بنا؟ فلما وقعت الحرب رأينا كيف يصنعون، فيضعون برميلاً كبيراً فيه زيت مغلي، ويأتون برافعة، ويضعون فيها الشخص، ويدخلونه، فيخرجونه فإذا هو عظام تلوح.
أما اليهود وأصحاب الطواقي السوداء فهم فرق شتى، وبينهم عداوات شديدة، ومع المنافقين أيضاً تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [سورة الحشر:14] كما قال الله : لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ [سورة الحشر:14] على قول كثير المفسرين: يعني اليهود، هم يتفقون على المسلمين فقط، ولكن بينهم خلافات وشرور، ومن المفترض أن يستفيد المسلمون من هذه الأشياء، وعليهم أن يعملوا على كسر شوكتهم في إثارة الاختلاف، والافتراق بينهم، وهم جاهزون، ومهيئون لهذا تماماً، ولكن الله المستعان.