الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَلَدَيْنَا كِتَٰبٌ يَنطِقُ بِٱلْحَقِّ ۚ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قوله: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ۝ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ۝ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ۝ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ ۝ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ ۝ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ [سورة المؤمنون:62-67] يقول تعالى مخبراً عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها؛ أي إلا ما تطيق حمله، والقيام به، وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء، ولهذا قال: وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ [سورة المؤمنون:62] يعني كتاب الأعمال، وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أي: لا يُبخسون من الخير شيئاً، وأما السيئات فيعفو، ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين، ثم قال منكراً على الكفار والمشركين من قريش: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ أي: في غفلة، وضلالة منْ هَذَا أي: القرآن الذي أنزله على رسوله ﷺ".

قوله - تبارك وتعالى -: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [سورة المؤمنون:62] الوسع بمعنى الطاقة، ولا حاجة للتكلف بتفسيره بغير هذا، والله يقول في سورة البقرة: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [سورة البقرة:286]، فالشريعة ما جاءت بتكليف ما لا يطاق، فكل التكاليف داخلة تحت قدرة المكلفين، وقد وضع الله الآصار وهي التكاليف الثقال التي كانت على من قبلنا قد وضعها الله عنا، وأخبر عن هذه الشريعة بأنه رفع فيها الحرج وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج:78]، والأحاديث الواردة في هذا الباب أيضاً معروفة قال: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [سورة المؤمنون:62] وهذا من حيث الإجمال بالنظر إلى أحكام الشريعة عموماً؛ فهي داخلة تحت قدرة المكلفين، وبالنظر إلى المعين فإنه إن عجز عن التكليف الذي يطيقه جنس المكلفين فإن ذلك إما أن يسقط عنه بالكلية، أو أن ذلك يصار معه إلى بدل، فالمريض إذا عجز عن الصيام فإنه يقضي، وإذا عجز عن الوضوء أو الاغتسال فإنه يتيمم، وهكذا.

وقوله - تبارك وتعالى -: وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [سورة المؤمنون:62] فسر ابن كثير - رحمه الله - الكتاب بكتاب الأعمال، مسطور لا يضيع منه شيء، وهذا يدل عليه قوله - تبارك وتعالى -: هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية:29]، والله يقول: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49].

فهذه الآيات بمعنى هذه الآية، ومفسرة لها في الكتاب، وهو كتاب الأعمال، ومن أهل العلم من يقول: هَذَا كِتَابُنَا يعني: القرآن ينطق عليكم بالحق، وبعضهم يقول: هو اللوح المحفوظ، ولكن الأقرب - والله تعالى أعلم - هو الأول.

وقوله - تبارك وتعالى -: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ [سورة المؤمنون:63] أي: في غفلة، وضلالة، فالغمرة: الشيء الذي يغمر الإنسان كالماء، يقال: غمره الماء فكل ما غطاك فقد غمرك.

فقوله: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ يعني: أنها في غفلة، وإعراض؛ فلا يصل إليها الحق، ولا تنفذ إليها الموعظة، وقوله - تبارك وتعالى -: مِنْ هَذَا أي: القرآن، وهذا الذي رجحه ابن جرير - رحمه الله - مع أن بعض أهل العلم يقول غير ذلك.

وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى ما ذكر في هذه السورة أو في هذه الآيات من الجزاء، والحساب، وما عليه أهل الإيمان من المسارعة في الخيرات وما أشبه ذلك، والقول بأن اسم الإشارة هنا يرجع إلى الآيات، وما ذكره الله في هذا؛ فهذا القول يدخل ضمناً في قول ابن كثير، وابن جرير؛ أنه القرآن، ومنه هذه الآيات المذكورة، ومعلوم أن القولين إذا كان أحدهما يتضمن الآخر، أو يستلزم القول الآخر، أو يلزمه؛ فيمكن أن تحمل الآية عليهما.

فقلوبهم في غمرة من القرآن، وما تضمنه من الإخبار عن أهل الإيمان، ومسارعتهم بالخيرات، وكذلك ما ذكره الله من خبر ذلك الكتاب الذي دونت فيه أعمالهم، وبهذا يمكن أن نجمع بين هذه الأقوال بهذه الطريقة، وأن القرآن يتضمنها جميعاً - والله أعلم -.

"وقوله: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ [سورة المؤمنون:63] قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ أي: سيئة من دون ذلك يعني الشرك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ قال: لا بد أن يعملوها، كذا روي عن مجاهد والحسن وغير واحد.

وقال آخرون: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ أي: قد كتبت عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة، لتحق عليهم كلمة العذاب، وروي نحو هذا عن مقاتل بن حيان والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ظاهرٌ قويٌ حسن، وقد قدمنا في حديث ابن مسعود: فوالذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها[1]".

قوله: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَ القول الأول ظاهر: أن المقصود بقوله: مّن دُونِ ذَلِكَ يعني: دون الإشراك الذي هو وصفهم، أي: لهم أعمال دون الكفر كما قال الله : مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۝ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۝ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [سورة المدثر:42-45].

ومن أهل العلم من يقول: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَ أي: من دون أعمال أهل الإيمان التي امتدحها الله ، وأخبر أنهم يسارعون إليها، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -.

وقال آخرون: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَ أي: قد كتبت عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة.

يعني: أنهم زاولوا أعمالاً قاموا بأعمال، قاموا بجرائم كالكفر، والمعاصي، والذنوب؛ وما إلى ذلك، ولهم أعمال أخرى من دون ذلك وليس المقصود أنها أقل منها، وإنما قبل حلول الأجل لا بد لهم من مواقعتها، وهذا الذي قال عنه ابن كثير - رحمه الله -: "قبل موتهم لا محالة لتحق كلمة العذاب"، وروى هذا عن مقاتل بن حيان والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ظاهر قوي حسن، وهذا نقل عليه الواحدي إجماع المفسرين، وأهل المعاني مع أن هذا الإجماع لا يصح، لكن بعض علماء التفسير يتساهل في نقل الإجماع، ولعله يقصد به قول جمهور العلماء.

  1. رواه البخاري، كتاب القدر، باب في القدر (8/122)، برقم: (6594)، ومسلم،  كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته، وسعادته (4/2036)، برقم: (2643).