السبت 22 / جمادى الآخرة / 1447 - 13 / ديسمبر 2025
حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [سورة المؤمنون:99- 100].

يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت من الكافرين، أو المفرطين في أمر الله - تعالى -، وقِيلهم عند ذلك، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته".

حَتَّى هذه هي التي يقال لها: الابتدائية، يعني التي تقال في ابتداء الكلام، هذا الكلام جديد مستأنف، بمعنى أنها ليست للغاية لو قال: إنها متعلقة بما قبلها، ومرتبطة بما سبق، وإنما هي ابتداء كلام تتكلم أحياناً وتأتي بحتى، تقول مثلاً: لقيت زيداً حتى سافرت إلى الرياض، وزرت عمراً، واشتريت كذا حتى اعتمرت لا تقصد الغاية إنما ابتداء الكلام، وأحياناً من معانيها الغاية، وأحياناً تكون لابتداء الكلام، تبتدئ جملة جديدة لا ترتبط بما قبلها، فهنا هذه ابتدائية حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ.

"ولهذا قال: رَبِّ ارْجِعُونِ ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا [سورة المؤمنون:99-100] كما قال تعالى: وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إلى قوله: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [سورة المنافقون:10-11]".

هنا قال: رَبِّ ارْجِعُونِ بصيغة الجمع، وذلك يدل على التعظيم فهو لا يعظم نفسه وإنما يعظم المخاطب وهو الله - تبارك وتعالى -، وهذا أحسن ما قيل في توجيهه، أي التعبير بصيغة الجمع.

وفي هذه الآية يتمنى الرجعة عند الموت حينما يرى الملائكة، وعندئذ يندم على ما فرط وضيع، فيتمنى الرجعة رَبِّ ارْجِعُونِ ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا، والآية الأخرى كذلك في سورة المنافقون، وهي التي ذكرها هنا وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ۝ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا [سورة المنافقون:10-11] ولهذا قال ابن عباس - ا -: "ما من أحد يجب عليه زكاة في المال - أو يعني فلم يزكِّ - إلا تمنى الرجعة عند الموت"، يعني يكون ترك وضيع واجبات النفقات الواجبة الزكاة ونحو ذلك إلا تمنى الرجعة عند الموت، فقيل له: اتق الله يا ابن عباس فإنه لا يتمنى الرجعة من له عند الله حظ، ونصيب، فقرأ هذه الآية، احتج بهذا الآية ليست في هذه السورة وإنما في الآية الأخرى: وَأَنفِقُوا.

"وقال تعالى: وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ إلى قوله: مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ [سورة إبراهيم:44]".

الآيات: وَأَنذِرِ النَّاسَ هؤلاء يتمنون الرجعة في الآخرة، والآية التي بين أيدينا، والآية التي في سورة المنافقون؛ يتمنى الرجعة عند الموت تدل على أنه يتمنى الرجعة في الآخرة إذا رأى العذاب، وهنا وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ۝ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ۝ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ۝ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [سورة إبراهيم:44-47] إلى آخره، هذا كله في الآخرة، يتمنى الرجعة في الآخرة، لا إشكال هو يتمنى عند الموت، ويتمنى أيضاً الرجعة في الآخرة كما أنه يتمنى إذا دخل النار رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [سورة المؤمنون:107]، والآيات كثيرة في هذا المعنى.

"وقال تعالى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [سورة الأعراف:53]".

هذا يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يعني وقوع ما أخبر به: القيامة، فالتأويل هنا بهذا المعنى يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ فهذا تمنٍّ للرجعة في الآخرة، وليس عند الموت.

"وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [سورة السجدة:12]".

وهذا في الآخرة.

"وقال تعالى: وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا إلى قوله: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:27-28]".

وهذا أيضاً في الآخرة عند الوقوف على النار، وقبل دخولها.

"وقال تعالى: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ [سورة الشورى:44]، وقال تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ [سورة غافر:11]، والآية بعدها، وقال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [سورة فاطر:37].

فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند الاحتضار، ويوم النشور، ووقت العرض على الجبار، وحين يعرضون على النار وهم في غمرات عذاب جهنم".

الآية المفسَّرة هنا: تمنِّى الرجعة عند الموت، ولكن ابن كثير - رحمه الله - أراد أن يوسع المعنى فذكر أنهم يتمنون عند الموت، وفي البعث، وبعد البعث والنشور، وإذا وقفوا على النار ورأوها، وكذلك إذا دخلوها، كل هذه المقامات يتمنون فيها الرجعة.

"وقوله ههنا: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [سورة المؤمنون:100] كلا حرف ردع وزجر، أي لا نجيبه إلى ما طلب، ولا نقبل منه، وقوله تعالى: إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا أي: سؤاله الرجوع ليعمل صالحاً هو كلام منه، وقول لا عمل معه، ولو رُد لما عمل صالحاً، ولكان يكذب في مقالته هذه.

قال قتادة: "والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل، ولا إلى عشيرة، ولا بأن يجمع الدنيا، ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله ، فرحم الله امرءاً عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار"".

يعني هذا وجه في تفسير كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا أي أنه لا حقيقة لذلك، وأنه كاذب به، ويحتمل أن يكون المعنى، وهذا قال به كثير من المفسرين كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا يعني أنه سيقول ذلك، ولكن هذا لا ينافي ما ذكره ابن كثير، فهذا الكلام الذي سيقوله لا حقيقة له، لكن من أهل العلم من يقول: إن هذا يرجع إلى الله كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ الله قائلها، وهي الكلمة التي سيقولها الله ، أو هو قائلها حين قال الله - تبارك وتعالى - هنا: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا يعني لا يمكن هذا الرجوع، وأن الله لا يمكّنه من ذلك، لكن هذا المعنى بعيد، ظاهر السياق يدل على أن ذلك يرجع إلى هذا الإنسان الذي تمنى الرجعة.

"وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قال أبو صالح وغيره وَمِنْ وَرَائِهِمْ يعني: أمامهم".

 يعني: هي كلمة من الأضداد كما في سورة الكهف أيضاً وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ [سورة الكهف:79] بمعنى كان أمامهم على قول الجمهور في تفسيرها - كما سبق -، وإلا فمن أهل العلم من قال: وَكَانَ وَرَاءهُم أي خلفهم، وفسر هذا بمعنى أنهم يريدون الذهاب إلى مقصودهم ثم سيرجعون، وسيكون في طريقهم في الرجعة ملِك، لكن هذا بعيد، فإن هذه الكلمة من الأضداد، وتأتي بمعنى أمام مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ [سورة الجاثية:10] ليس المقصود خلفهم جهنم؟ لا، فتأتي بمعنى الخلف، وتأتي بمعنى الأمام.

"وقال مجاهد: "البرزخ الحاجز ما بين الدنيا والآخرة"، وقال محمد بن كعب: "البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، ليسوا مع أهل الدنيا يأكلون، ويشربون، ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم"، وقال أبو صخر: "البرزخ المقابر، لا هم في الدنيا، ولا هم في الآخرة، فهم مقيمون إلى يوم يبعثون"".

يعني هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها معناها واحد: أن البرزخ هو المرحلة التي تكون ما بين الحياة الدنيا والبعث والنشور، وهي مدة البقاء في القبور هذه كلها بمعنى واحد، لكن من أهل العلم من يقول: إن البرزخ المذكور هنا هو ما بين النفختين: نفخة الصعق، ونفخة البعث، وهذا وإن قال به بعض السلف إلا أن القول الأول هو الأقرب، والأرجح، والمتبادر، وهو الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً، وخلفاً، وإن اختلفت عباراتهم.

يقول: إنها ثلاثة دور: الدنيا، والآخرة، والبرزخ.

لا إشكال إذا أردت أن تفصل تقول: الدور ثلاثة: فدار الدنيا هي دار العمل، ودار البرزخ وهي ليست دار جزاء، وحساب، ولكنه يصله من الثواب أو العقاب ما يصله، ودار الآخرة هي دار النعيم المقيم، أو العذاب الأليم، ولهذا ابن القيم - رحمه الله - يقول: "إن الدنيا يجد الإنسان فيها اللذة، والألم، وأكثر ما يقع على النفس، والروح تبع، وفي البرزخ أكثر ما يقع على الروح، والبدن تبع، وفي الدار الآخرة يكون كمال اللذة، والنعيم، والعذاب يقع على الروح، والبدن على حد سواء، وهذا أكمل في اللذة، وأكمل في العذاب، فيمكن أن تقول في هذا الاعتبار: الدور ثلاثة، وإذا قلنا: إن الدار تنقسم قسمين: دار الدنيا، والآخرة، فالبرزخ هو أول منازل الآخرة، ولا إشكال باعتبار أن الإنسان عاين، وعرف مصيره، وختم على عمله، ويأتيه من النعيم، والعذاب ... إلى آخره، وهذا كله مما يتصل بالآخرة، فالبرزخ ليس من الدنيا، وإنما هو أول منازل الآخرة.

"وفي قوله: وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ كما قال تعالى: مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ، وقال تعالى: وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:17].

وقوله تعالى: إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يستمر به العذاب إلى يوم البعث كما جاء في الحديث: فلا يزال معذب فيها".