قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [سورة النور:23-25].
يقول المختصر -رحمه الله-: هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات.
فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولاسيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق -ا.
وقد أجمع العلماء -رحمهم الله-، قاطبة على أن مَنْ سَبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكره في هذه الآية فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن، وكذا الحكم في جميع أمهات المؤمنين.
وقوله تعالى: لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ الآية، كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... الآية [سورة الأحزاب:57].
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا في عائشة، ومن صنع مثل هذا أيضًا اليوم في المسلمات، فله ما قال الله ، ولكن عائشة كانت إمامَ ذلك.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال: اجتنبوا السبع الموبقات ، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات [1]، أخرجاه في الصحيحين.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إنهم -يعني: المشركين- إذا رَأوا أنه لا يدخلُ الجنةَ إلا أهل الصلاة، قالوا: تعالوا حتى نجحد، فيجحدون فيختم الله على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم، ولا يكتمون الله حديثًا.
وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن أنس بن مالك قال: كنا عند النبي ﷺ فضحك حتى بدت نواجذُه، ثم قال:أتدرون مِمَّ أضحك؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: يا رب، ألم تُجِرْني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: لا أجيز عليَّ شاهدًا إلا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام عليك شهودا فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لَكُنّ وسُحْقًا، فعنكُنَّ كنتُ أناضل[2]، وقد رواه مسلم والنسائي.
وقوله: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ قال ابن عباس: دِينَهُمُ أي: حسابهم، وكل ما في القرآن دِينَهُمُ أي: حسابهم، وكذا قال غير واحد.
وقوله: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ أي: وعده ووعيده وحسابه هو العدل، الذي لا جور فيه.
فقوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ هنا يرِد سؤالان:
السؤال الأول: أن الله -تبارك وتعالى- ذكر اللعن لهؤلاء في الدنيا والآخرة، ومن لُعن في الدنيا والآخرة فلا خلاق له ولا نصيب عند الله -تبارك وتعالى-، ومعلوم أن قذف المحصنات لا يبلغ مرتبة الشرك، والله قال في مسطح وأمثاله موجهاً لأبي بكر الصديق : وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة النور: 22]، فرغبهم في هذا، وفي الإحسان إليهم، وأثبت لهم هجرتهم، فالشرك بالله -تبارك وتعالى- أعظم من ذلك وهو محبط للأعمال، والنصارى أهل لون قبيح من الشرك وهم الذين نسبوا إلى الله الصاحبة والولد ومع ذلك يقول الله عنهم: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة: 74].
السؤال الثاني: ما الفرق بين هذه الآية وبين الآية الأولى التي ذكر الله -تبارك وتعالى- فيها الحد؟
أما جواب السؤال الأول: وهو اللعن هنا في الدنيا والآخرة فمن أهل العلم من يقول: إن ذلك يختص بعائشة-ا- مَن قذفها فلا توبة له، وهو ملعون في الدنيا والآخرة، ومنهم من قال: إن ذلك يختص بأمهات المؤمنين، فمن قذفهن فهذا حكمه، ومن أهل العلم من يقول: إنه لمّا نزلت هذه الآية نزلت بعد ذلك الآية التي في أول هذه السورة وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ [سورة النور: 4-5]، فيكون ذلك في من لم يتب، وبهذا الاعتبار تكون الآية عامة، وهذا هو ظاهرها، فظاهر اللفظ يدل على هذا فالله -تبارك وتعالى- قال: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فهذا عام في المؤمنات اللاتي بهذه الصفة محصنات غافلات، لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فإن حصلت التوبة، فإن التوبة تجبّ ما قبلها، ويبقى ما يتعلق بحق المخلوق، وهل يتوقف عن المطالبة فيه أو لا يتوقف، فإذا أقيم الحد فإن المخلوق يكون قد استوفي، لكن لو لم يطالب أو لم يعلم، أو كان ميتاً ونحو ذلك فيبقى حق المخلوق، فمن تاب وكانت توبته صحيحة فالله يتولى أمره، ولهذا قال بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: إن اللعن، وعموم نصوص الوعيد تكون عامة، ولكن ذلك لا يعني أن تتنزل على المعين، ما ورد فيه اللعن لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والنامصات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله...الحديث [3]، و لعن الله من لعن والده، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غيّر منار الأرض [4]، أو نحو ذلك من النصوص الواردة في اللعن فإن هذا لا يتنزل بالضرورة على المعين؛ لأن المعين قد يوجد ما يمنع من ذلك في حقه، يوجد مانع، أو ينتفي شرط أو يوجد مصائب مكفرة، أو حسنات ماحية ينغمر فيها هذا الذنب، كما قال النبي ﷺ في حق حاطب لما قال لعمر: وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم [5]، فهذه الحسنة العظيمة والشهود في غزوة بدر انغمرت معها تلك السيئة مع أنها ليست بسيئة يسيرة، وإذا فهمتَ هذا المعنى: أن ما ورد من اللعن والوعيد العام لا يقتضي بالضرورة ولا يتنزل على المعين، ولاشك في كل الحالات أن التائب يخرج من هذا، فإذاً قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ عام، وهو من نصوص الوعيد، ولا حاجة للتكلف في حمله على المحامل البعيدة، أو في تخصيصه من غير دليل، فيقال: هذا خاص بعائشة -ا-، أو خاص بأمهات المؤمنين ولا دليل عليه، فهو نص عام ولا يعلم ما يخصصه، وهذا فيمن لم يتب، ثم إن هذا اللعن حتى في حق من لم يتب قد يوجد مانع أو ينتفي شرط، أو توجد حسنات ماحية فلا يتنزل على المعين، وكثير من نصوص الوعيد إذا عوملت بهذه الطريقة استرحنا من حملها على المحامل المتكلفة، وذلك أوقع في النفوس، ويحصل به مقصود الشارع من الزجر، وإلا فمن أهل العلم من قال: إن هذا خاص بالمشركين؛ حيث كانت المرأة إذا خرجت مهاجرة إلى المدينة قالوا: إنما خرجت للفجور، فيرمون المحصنات، فإذا قالوا: هذا خاص بالمشركين فلا إشكال عندهم، لعنوا في الدنيا والآخرة، وهكذا قال بعضهم: إن هذا يختص بعبد الله بن أبيّ فهو كافر بالباطن؛ لأنه من المنافقين، وبهذا الاعتبار لا إشكال عندهم باللعن في الدنيا والآخرة، ولا دليل على أن هذا يختص بعبد الله بن أبي، أو بالمشركين، وهكذا قول من قال: إن ذلك إن قُصد به أحد من أهل الإيمان أو من وقع بهذا مثل حسان ومسطح فالمقصود باللعن في الدنيا استيحاش المؤمنين منهم، ويكون الواحد منهم مبعداً بهذا الفعل وما شابه ذلك، وإن كان من المنافقين فاللعن المراد به ما عرف من حقيقته الشرعية، لكن هذا الكلام لا دليل عليه، يعني: إذا وجه هذا في اللعن في الدنيا فيقولون في اللعن في الآخرة لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : استيحاش المؤمنين في الآخرة، وعدم الثناء عليهم، فهذه إن ما حمل عليها هو هذا الاستشكال: هذا مؤمن، وقذفَ محصنة فكيف يلحقه اللعن في الدنيا والآخرة؟، نقول: هذه نصوص الوعيد، فان تاب ارتفع ذلك عنه، وقد يوجد له حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو يوجد له ما يمنع هذا أو يُفقد شرطٌ أو نحو ذلك، والله تعالى أعلم.
والسؤال الآخر: ما الفرق بين هذه الآية والآية السابقة؟ من خص ذلك بعبد الله بن أبي أو بالمشركين أو قال: إن ذلك يختص بأهل الإيمان، فالفرق عنده ظاهر أن تلك عامة، وهذه خاصة إما بمن قذف أمهات المؤمنين أو قذف عائشة -ا- أو كان ذلك يختص بنوع من القاذفين، فقالوا: تلك الآية عامة، وبعض السلف يقول تلك: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء [سورة النور: 4] فيمن عسى أن تكون قد قارفت -يرمون المحصنات- يعني: لا يستبعد منها هذا، فيها ريبة، فيها شك فيها أمارات، فيها قرائن، وهذه فيمن لم تقارف، ولم يصدر منها شيء يوجب ارتيابا، أخذوا هذا من الزيادات في الآية زيادة الأوصاف، هناك قال: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء ، وهنا ذكر ثلاثة أوصاف: المحصنات، الغافلات، المؤمنات، فالمحصنات بمعنى العفيفات، والغافلة هي التي لا يخطر ذلك في بالها، ولا تلتفت إلى هذه الأمور، ولا تتفطن لها إطلاقاً مع وصف الإيمان، لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا فقذف هذه أشد من قذف تلك التي قد تكون قارفت هكذا قال بعض السلف، وهذا لا يخلو من إشكال، مع أنه لاشك أن من قذف الغافلة ليس كمن قذف غيرها، فقذف الغافلات أشد، وهناك شروط لإقامة الحد في القذف متعلقة بالمقذوف، وأخرى تتعلق بالقاذف، فمن الشروط التي ذكروها في المقذوف أن يكون نزيهاً عُرف بالنزاهة مما قذف به، فلو تكلم في واحدة في مرقص ليليّ -أعزكم الله- وقذفها لا يقام عليه الحد؛ لأنها ليست من المحصنات، والمحصنات بمعنى العفيفات وليس المتزوجات في الآية، فلو قذف هذه التي ترقص وتقارف ألوان المنكرات في ملهى ليليّ أو نحو هذا مثل هذا لا يقام عليه الحد، لكن لا يمكن أن نقول له أن يطلق لسانه أصلاً في هذا، فهنا قال الله -تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، والذي أظنه أقرب -والله أعلم- في الجمع بين الآيتين أن الآية الأولى فيما يترتب على ذلك من الحكم والحد في الدنيا، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [سورة النور: 4-5] حكم عليهم بالفسق، وعدم قبول الشهادة، والجلد، كما ذكر الله حد الزنا، ذكر حد القذف، وذلك في بيان الأحكام التي تترتب على القذف في الدنيا ماذا يُفعل بالقاذف، وهذه في الوعيد، والعقاب الذي ينتظر هذا الإنسان جراء ذلكلُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللعن: هذا في الوعيد، وذاك في الأحكام، إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ قلنا: العفيفات، الغافلات هي التي تكون بعيدة عن هذا يعني كيف تفرق بين الغافلة وغير الغافلة في هذه الأمور؟ فالغافلة هي التي لا يخطر ذلك في بالها، ولا تلتفت لهذه الأمور ولا تعرف حيل غير الغافلات، ولا يصدر منها شيء يكون سبباً للارتياب، وأما غير الغافلة فهي امرأة تعرف كيف تتصرف تصرفات تحرك فيها نفوس الرجال، سواء كان ذلك باستمالة قلوبهم بغنج، ومحادثات مع الرجال غير لائقة لها، ورجال بالهاتف هذه ليست غافلة، أو كان ذلك بتصرفاتها بنفسها حيث تخالط الرجال، وتزاحمهم، وتعاشرهم، وتذهب معهم لربما وتجيء، وتخرج مع رجل، وإن كانت لا تقارف الفاحشة وإنما تخرج مع رجل ليس من محارمها وتواعده....إلى آخره، فهذا أمر يخرجها عن كونها من الغافلات، وهذا أمر معروف لا يخفى، فالمرأة غير الغافلة غالباً ما تكون صاحبة التواء وحيل، تعرف كيف تتصرف إذا جاء الموقف المحرج مباشرة، تعرف كيف تغطي ذلك وتستره باختلاق أي لون من ألوان المعاذير والأكاذيب، والله المستعان، إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ واللعن معروف، وهو محمول على معناه المعروف شرعاً: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ولا داعيَ لحمله على الاستيحاش وما أشبه ذلك، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيرها: هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة لاسيما التي كانت سبب النزول وهي عائشة -ا-، وكلامه -رحمه الله- ظاهر في أنه حمل الآية على العموم؛ وكذلك حملها جماعة من أهل العلم والمحققين، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- ويدخل في ذلك دخولاً أولياً من رمى أمهات المؤمنين، ويدخل فيه أيضاً من باب أولى من رمى عائشة؛ لأن الآيات نزلت فيها، ولا يوجد دليل على أنه هل يختص هذا بها أو بهن؟، والإشكال سمعتموه في قوله -تبارك وتعالى-: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، يرد السؤال هنا كيف تشهد عليهم ألسنتهم، وقد ختم على أفواههم الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ [سورة يــس:65]، كيف تشهد الألسنة؟ فكثير من أهل العلم، عامة أهل العلم ومنهم كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- يقول: المراد به أنها تشهد ألسنة بعضهم على بعض تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ؛ لأنه إذا ختم على الأفواه فمعنى ذلك أن الألسن لا تنطق، هذا قال به عامة أهل العلم، ويمكن أن يقال غير هذا، وقد قيل: إنه يختم على الأفواه وتتكلم الأيدي والأرجل إلى آخره فهو ينكر في البداية، وكما في الحديث أنه يقول: لا أجيز عليّ شاهداً إلا من نفسي ، ويجادل، فإذا شهدت عليه جوارحه وجلده فعند ذلك يقر بلسانه، ويقول كما جاء في آخر الحديث، ثم قال: يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول بعداً لكُنّ وسحقاً فعنكنّ كنت أناضلفيقر بعد ذلك، وهذه الآية كقوله -تبارك وتعالى- في الآيات الأخرى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ، وقوله -تبارك وتعالى-: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ [سورة فصلت:20]، فالله -تبارك وتعالى- ينطقها، وهذا على ظاهره ولا حاجة إلى التكلف وحمله على المحامل البعيدة، فهو كما قال الله عنهن: أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [سورة فصلت:21]، ويقول: وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ [سورة فصلت:22] فالحاصل أن الإنسان يقر بعد ذلك فينطق حينما يُخلَّى بينه وبين الكلام، وقد يكون هذا التوجيه أقرب لظاهر الآية من القول بأن المراد أنه تشهد ألسنة بعضهم على بعض؛ لأن الله ذكر ذلك في سياق واحد، يقول:يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم فلسانه يشهد عليه، ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم فكل ذلك يختص به يرجع إليه، وليس من شهادة بعضهم على بعض، والله تعالى أعلم، ثم قال الله -تبارك وتعالى-: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ، قال: قال ابن عباس: دِينَهُمُ أي: حسابهم، وكل ما في القرآن دِينَهُمُ أي: حسابهم، كل ما في القرآن دينهم أي حسابهم: هذا الذي يسمى بالكليات كل ما في القرآن، هذا يوجد كثيراً في كلام السلف لاسيما في كلام التابعين، وهذه هي التي تسمى بالكليات في التفسير، كل كذا فهو كذا، وهي تحتاج إلى شيء من الاستقراء، يعني بعض هذه الأشياء التي تذكر قد لا تكون دقيقة، فإن كان المستثنى قليلاً فيمكن أن يبين، يقول: كل ما كان كذا فهو كذا إلا في الموضع الفلاني، كل ما في القرآن من "لعل" فهو للتعليل إلا في قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، فيبين، لكن أحياناً تكون الأشياء الخارجة عن هذا كثيرة، كل ما في القرآن من القنوت فهو دوام الطاعة مثلاً وهذا يحتاج إلى استقراء، وقد تجد أهل العلم يفسرونه في المواضع المختلفة بتفسيرات مختلفة غير متفقة أحياناً، وقد يرى بعض أهل العلم أن ذلك يرجع إلى معنى واحد، ولهذا قد يتفاوت الناس في تقدير هذه الأشياء هل هذا الحكم العام صحيح أو غير صحيح، وقوله -تبارك وتعالى-: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ، يعني يوفيهم جزاءهم، فالدين يأتي بمعنى الجزاء دِنّاهم كما دانوا أي جازيناهم مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] أي يوم الجزاء والحساب، والله يقول: ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى [سورة النجم:41]، وقال: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ [سورة آل عمران:185]، والأجور هي الجزاء، وذكْر التوفية يدل على أن ذلك يكون بكمال لا يحصل به بخس، ونقص، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ [سورة البقرة:281]، وقوله الحق:يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُأي جزاءهم الحق، يعني الذي هو في غاية العدل والإنصاف، يوفيهم الله دينهم قال: الحق، فالحق يرجع إلى الدين يعني جزاءهم الحق فيكون المراد بذلك دينهم الحق أي الذي هو في غاية العدل والإنصاف كما جاء في آيات كثيرة إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة يونس:44]، إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [سورة النساء:40]، وهكذا في قوله:فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:7-8]، وقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [سورة الأنبياء:47] هذا كله راجع إلى هذا المعنى، لكنه جاء في قراءة بعض السلف بالرفع يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقُّ فبهذا الاعتبار يكون الحق راجعاً إلى الله -تبارك وتعالى-، وفي مصحف أُبيّ (يومئذ يوفيهم اللهُ الحقُّ)، الحق يكون من صفة الله -تبارك وتعالى-، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ومن أسمائه -تبارك وتعالى- الحق.
- رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [سورة النساء:10]، برقم (2615)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم (89).
- رواه مسلم، في أول كتاب الزهد والرقائق، برقم (2969)، والنسائي في السنن الكبرى، (11653).
- رواه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله، برقم (2125).
- رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله، برقم (1978).
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس، برقم (2845)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أهل بدر وقصة حاطب بن أبي بلتعة، برقم (2494).