الثلاثاء 20 / ذو الحجة / 1446 - 17 / يونيو 2025
ٱلْخَبِيثَٰتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَٰتِ ۖ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِ ۚ أُو۟لَٰٓئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

 الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ  [سورة النور:26].

قال ابن عباس: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول، والطيبات من القول، للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول، قال: ونزلت في عائشة وأهل الإفك.

وهكذا رُوي عن مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جُبَير، والشعبي، والحسن بن أبي الحسن البصري، وحبيب بن أبي ثابت، والضحاك، واختاره ابن جرير، ووجَّهَهُ بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم؛ ولهذا قال: أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.

وهذا -أيضًا- يرجع إلى ما قاله أولائك باللازم، أي: ما كان الله ليجعل عائشة زوجةً لرسول الله ﷺ إلا وهي طيبة؛ لأنه أطيب من كل طيب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له، لا شرعا ولا قدرا؛ ولهذا قال: أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ أي: هم بُعَداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي: بسبب ما قيل فيهم من الكذب، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي: عند الله في جنات النعيم، وفيه وعد بأن تكون زوجة النبي ﷺ في الجنة.

قوله -تبارك وتعالى-: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ.. قال ابن عباس: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول، والطيبات من القول للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول، قال: ونزلت في عائشة وأهل الإفك، ثم ذكر من قال بهذا، وأنه اختيار ابن جرير هذا الذي عليه الجمهور من المفسرين سلفاً وخلفاً أن الطيبات المقصود بها من الكلمات والأقوال للطيبين، وأن الطيبين من الناس للطيبات من الأقوال، فيكون المعنى كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا [سورة الأعراف:58] فالشيء من معدنه يستخرج، فأولائك من الطيبين إنما يصدر الطيب من الأقوال فينتقون من الكلام أحسنه، ولا يطلقون ألسنتهم فيصدر منها مالا يليق، وهكذا أيضاً الخبيثون للخبيثات، الخبيثون من الناس للخبيثات من القول فلا يصدر عنهم إلا السب واللعن والشتم والقذف والقبيح من الأقوال؛ لأنهم معدن لهذه الأشياء، كما أن الخبيثات من الأقوال الكلمات والألفاظ إنما تصدر من الخبيثين، فإذا كان الإنسان طيباً فإن لسانه يكون طيباً ولابد، والله  يبغض الفاحش البذيء، والنبي ﷺ لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، والمؤمن ليس باللعان ولا الطعان ولا الفاحش ولا البذيء، هذا القول لا إشكال فيه، وابن جرير -رحمه الله- اختار هذا القول واختاره غيره كثيرون وعزاه النحاس لعامة المفسرين، ولكن ذلك ليس محل اتفاق، ومن أهل العلم من يقول: إن المقصود بالخبيثات أي من النساء للخبيثين من الرجال، كما أن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال وبالعكس، وهذا القول يشكل عليه أن من الطيبين من قد يبتلى بامرأة ليست كذلك والعكس أيضاً، لكن جواب أصحاب هذا القول عن هذا الإيراد أن ذلك باعتبار الغالب وإلا فكم من امرأة طيبة ابتليت برجل لا خلاق له والعكس، قالوا: باعتبار الغالب، وأن الطيور على أشكالها تقع، وكما وجه هذا في قوله على بعض المعاني في التفسير التي ذكرت:الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [سورة النور:3]، وبعض أهل العلم مثل الشنقيطي -رحمه الله- ذكر تفصيلاً أدق من هذا، انظر الآية الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ قال: "الخبيثات يعني من الكلمات والأقوال،وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ الطيبات من الكلمات والأقوال لكن الطيبون للطيبات، الطيبون للطيبات مثلاً، الطيبون والخبيثون جمع مذكر سالم فهذا من الناس، الخبيثون من الناس، الخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس، والطيبات من الأقوال للطيبين من الناس، يقول: إن هذا يوضح قول عامة أهل العلم، ولكنه في نفس الوقت يمكن حمل الآية على المعنيين، الخبيثات من الأقوال ومن النساء للخبيثين من الناس من الرجال، وقوله -تبارك وتعالى- بعده: أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ يقول هنا ابن كثير -رحمه الله-: واختاره ابن جرير ووجهه بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم، ولهذا قال: أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ يقول ابن جرير: إن الطيبين إنما يصدر عنهم الطيبات من القول، فإن صدر عنهم خلاف ذلك فإنه لا يضرهم، وإن صدر في حقهم -يعني قال الناس فيهم كلاماً سيئاً- فإن ذلك إنما يضر قائله، ولا يضر هؤلاء الطيبين، وأما الخبيثون فإنه إن صدر عنهم الكلام الخبيث فإنه يضرهم، وإن قيل فيهم فإن ذلك هو مظنة السوء والخبث من الأوصاف والأحوال والأعمال، إن صدرت في حقهم فإن ذلك يضرهم، أما الطيبون فالله -تبارك وتعالى- قال في حقهم: أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ قال ابن جرير-رحمه الله-: يعني مما يصدر عنهم، أو مما يقوله أهل الإفك، والذي عليه عامة أهل العلم أن المقصود أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ مما يقال فيهم، كما قال أهل الإفك في عائشة -ا-، وظاهر كلام ابن جرير أنه حمله على الاحتمالين أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ أي إن صدر منهم كلام غير جيد فإنه لا يضرهم، وإن صدر ذلك في حقهم فإن ذلك لا يضرهم، لكن القول إن صدر منهم فإنه لا يضرهم هذا لا يخلو من إشكال وهو مؤاخذ على ما يقول، فإذا قذف أحداً من الناس أو شتمه أو لعنه والنبي ﷺ أخبر أن لعن المؤمن كقتله[1]، وقال: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر[2]، لكن قد يجيب ابن جرير عن هذا الإيراد فيقول: إنما مَن عُرف بلعن وبقذف وما أشبه ذلك، والمؤمن ليس باللعان ولا الطعان ولا الفاحش ولا البذيء، والكلام ليس عن هذا وإنما عمن صدر منه ذلك على سبيل الفلتة في حال من الغضب والانفعال أو نحو ذلك، ليس ذلك من عادته ولا صفته ونحو هذا، ويمكن أن نجيب بهذا، وذلك في قصة أبي بكر الصديق لما نزل به أضياف ثم أمر ابنه أن يقوم بما يجب، فأبوا أن يأكلوا...، الشاهد أن أبا بكر شتم ولده، ثم قال لهم: كلوا لا هنيئاً ولا مريئاً، فمثل هذا إذا صدر في حال من الأحوال النادرة من الإنسان فقد يقول ابن جرير -رحمه الله-: المقصود هذا، والحالات التي ليست من صفة الإنسان، ولا من عادته إنما هو من أهل الإيمان والكمال فيه فإن ذلك لا يضره إن صدر مثل هذا، بخلاف من كانت هذه عادته وديدنه، فهذا تخريج لقول ابن جرير، لكن الأحسن -والله أعلم- أن يقال: إن الخبيثين من الناس للخبيثات من الأقوال والأوصاف والأعمال والأحوال هم مظنة ذلك، وإذا قيل ذلك في حقهم فهو مظنته، وأما الطيبون من الناس فللطيبات من الأقوال والأعمال والأحوال، وإن شئت تقول: النساء أيضاً، كما أن الخبيثين للخبيثات، والنبي ﷺ طيب، والله -تبارك وتعالى- لا يختار له إلا الطيبات من النساء، باعتبار النزول، النزول في عائشة -ا- قصة الإفك، لكن هذا يكون على سبيل الإلحاق، بمعنى أنه ليس هو المعنى الأساسي الأصلي ونحو ذلك، ويقال -والله أعلم-: إن الأصل هو هذا: الطيبات من الأوصاف والأعمال والأحوال والكلمات والنساء للطيبين من الرجال والعكس، أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، يُبرءون مما يقول أهل الإفك، وابن جرير يزيد عليه مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ مما يصدر عنهم من الطيبين، إن صدر منهم مالا يليق، والرزق الكريم عرفنا المراد به، والتنكير في المغفرة يدل على التعظيم، والمغفرة عظيمةلَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ الرزق الكريم الطيب الذي لا تنغيص فيه بوجه من الوجوه.

وعبارة ابن جرير التي تقدم ذكرها وهي قوله: "الطيبون من الناس مبرءون من خبيثات القول، إن قالوها فإن الله يصفح لهم عنها، ويغفرها لهم"، هذا إذا كان على سبيل أنها ليست صفته، وليست ديدن هذا الإنسان، وإلا فلا يكون طيباً، وإن قيلت فيهم ضرت قائلها ولم تضرهم، كما لو قال الطيبَ من القول الخبيثُ من الناس لم ينفعه الله به؛ لأن الله لا يتقبله، ولو قيلت له ضرته؛ لأنه يلحقه عارها في الدنيا، وذلها في الآخرة، هذا نص كلام ابن جرير، ولكن قد لا يخلو من إشكال، فالخبيث إذا لم يكن كافراً وقال كلاماً طيباً ونحو ذلك الكلمة الطيبة صدقة،فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، والأصل أن الإنسان مؤاخذ على ما يقول من شتم أو سب أو لعن أو نحو ذلك هو مؤاخذ عليه، والله أعلم.

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (16385)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، يحيى بن سعيد: هو القطان، ويزيد: هو ابن هارون، وهشام: هو ابن أبي عبد الله الدستوائي، ويحيى: هو ابن أبي كثير الطائي، وأبو قلابة: هو عبد الله بن زيد الجرمي، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (712).
  2. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، برقم (47)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي ﷺ سباب المسلم فسوق وقتاله كفر، برقم (64).