يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [سورة النور:27-29].
هذه آداب شرعية، أدّب الله بها عباده المؤمنين، وذلك في الاستئذان أمرهم ألا يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم حتى يستأنسوا، أي: يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده، وينبغي أن يستأذن ثلاثًا، فإن أذن له، وإلا انصرف، كما ثبت في الصحيح: أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثًا، فلم يؤذن له، انصرف، ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له، فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال: ما رَجَعَك؟ قال: إني استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له، فلينصرف، فقال عمر: لَتَأتِيَنَّ على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضربًا، فذهب إلى ملأ من الأنصار، فذكر لهم ما قال عمر، فقالوا: لا يشهد لك إلا أصغرنا، فقام معه أبو سعيد الخُدْريّ فأخبر عمر بذلك، فقال: ألهاني عنه الصَّفْق بالأسواق
قوله -تبارك وتعالى-:لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا كلام أهل العلم طويل وكثير جداً في المراد بالاستئناس، وذلك أنه وقع له شيء من الاستشكال من جهتين:
الجهة الأولى: معنى الاستئناس، هذه اللفظة.
والجهة الثانية: الاستئناس إذا فسر بالاستئذان فقد دلت السنة على أن الاستئذان يبدأ بالسلام "السلام عليكم أأدخل؟"، إذا قلنا: إن الاستئناس هو الاستئذان، والسنة تدل على أن السلام يقدم، وظاهر الآية إذا فسر بهذا التفسير قد يفهم منه أن الاستئذان يقدم على السلام وهذا محل الاستشكال، ولذلك كلام أهل العلم متفرق وكثير، الذي عليه عامة أهل العلم كثير من أهل العلم يفسرون الاستئناس بالاستئذان، وهذا منقول عن ابن عباس وسعيد بن جبير والإمام مالك، ومن المفسرين اختاره القرطبي، وهو قول ابن كثير، وفي قراءة لابن عباس وأٌبيّ بن كعب وسعيد بن جبير حتى تستأذنوا، ومعلوم أن القراءة الأحادية تفسر القراءة المتواترة وتبينها، وذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- عن الطحاوي أنه قال: الاستئناس في لغة اليمن بمعنى الاستئذان، وفي مصحف ابن مسعود حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا، وهذا أيضاً مروي عن ابن عباس، واختار هذا القول ابن جرير -رحمه الله.
القول الثاني: إن المراد به الاستئناس قالوا: حتى تؤنسوا أهل البيت، نؤنسهم بإشعارهم بالتنحنح أو نحو ذلك، إصدار صوت من حركة النعل -أعزكم الله-، أو التنحنح أو ما إلى ذلك حتى يعلموا ويشعروا بمجيئكم وإرادة الدخول عليهم، هذا قال به بعض السلف، وهو منقول عن مجاهد، وعن ابن زيد عبارة ابن جرير يقول في كلامه: إن الاستئناس هو أن يستأذن أهل البيت بالدخول عليهم مخبراً بذلك من فيه، وليؤذنهم أنه داخل عليهم، فليأنسَ إلى إذنهم له في ذلك، ويأنسوا إلى استئذانه إياهم، وقد حُكي عن العرب سماعاً: اذهب فاستأنس هل ترى أحداً في الدار؟ بمعني انظر هل ترى فيها أحداً؟، فكلام ابن جرير لم ينتهِ بعد، لكن إذا تأملت في عبارة ابن جرير وهي دقيقة جداً فكأنه جمع بين المعنيين بين إطلاق الاستئناس على الاستعلام والاستكشاف كما سيأتي، وهذا معنى له في كلام العرب في كلام الاستئناس، ولازم هذا هو يستأنس: يستعلم هل يأذنون أو لا يأذنون، والمعنى الآخر وهو ما يقابل الاستيحاش فيأنس بإذنهم ويأنسون باستئذانه، وهذا بخلاف الذي يأتي ويدخل مباشرة ويفاجئون به وهو في الصالة، فسيستوحشون، ينقبضون ويقولون: من أين جاء؟ كيف دخل؟ وآيات الاستئذان جاءت في بعض الكلام على رمي المحصنات والقذف والآداب التي ذكرها الله ، وحكم هذه الفواحش إلى آخره فسد الباب، فذكر لهم آداب الدخول على الناس؛ لئلا تقع عينه على شيء وأمور لا تحمد عواقبها، إما من مقارفات الفواحش يرى عورات الناس، ويرى المرأة متبذلة، أو غير ذلك مما قد يقع من قذف كأن يرى شيئاً يوجب ريبة فيتكلم في أعراض الناس، فيستأنس فلا يدخل على هؤلاء إلا وقد تهيئوا له؛ لأن الناس إنما يستروحون إذا خلوا في بيوتهم فيطمئنون فيها، ويتخففون في لباسهم وتصرفاتهم وجلوسهم وطريقتهم ومأكلهم، فالإنسان إذا كان أمام الآخرين فإنه يكون متحفظاً بطريقته في جلسته وقيامه وقعوده وحركته، وأكله وشربه ولباسه، كل هذه الأمور لربما يكون لك على سبيل أو بشيء من التكلف الذي يرهق النفوس فإذا خلا وانفرد لوحده وضع عنه بعض هذه الثياب، وجلس كما يحلو له واطمأنت نفسه، واستروح أن عيون الآخرين لا ترقبه، وإذا أراد أحد الدخول عليه فإنه يشعره بذلك ويتهيأ له، لكن لو تخلى الناس عن هذه الآداب وصار الواحد يدخل متى شاء على الآخرين فإن الإنسان يبقى مترقباً دائماً، ولذلك تقع مشاكل، فمثل هذا قد لا يتصور: أناس يدخلون في البيت بدون أي استئذان، والقضية لا تتعلق بالأجانب والآخرين بل حتى أهل البيت، وتقع بسببها مشاكل كثيرة وشحناء في الطلاب الذين في الجامعة مثلاً هذا زميله في الغرفة أو بجواره في الغرفة المجاورة، أو أصحابه أو كذا وما يشعر إلا والباب يدفع وإذا به وسط الغرفة، هذا على أساس ما يوجد في البيت نساء، ما يوجد في الغرفة نساء، لكن القضية لا تختص بالنساء، فالشاهد أن ابن جرير جمع المعاني الأصلية، والمعنى اللازم، فكلمة استئناس تطلق على ما يقابل الاستيحاش، وتطلق على معنى الاستكشاف والاستعلام، إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [سورة طه:10] آنس من جانب الطور ناراً؛ ولهذا انظر عبارته، يقول: الصواب أن الاستئناس هو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم مخبراً بذلك من فيه، فإذا استعلم وطلب الأنس بإذنهم، فإن الأنس يحصل لمن أذن له، وهم إنما يأنسون بمن يستأذن عليهم، يقول: وليؤذنهم أنه داخل عليهم فليأنسَ إلى إذنهم في ذلك ويأنسوا إلى استئذانه إياهم، وذكر كلام العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً في الدار؟ بمعنى انظر هل ترى أحداً؟ قال: فتأويل الكلام إذاً "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا" ذلك أن يقول أحدكم: السلام عليكم أأدخل؟ وهو من المقدم الذي معناه التأخير، وإنما هو: حتى تسلموا وتستأنسوا، وهذا الجواب عن الإشكال إذا كان الاستئناس بمعنى الاستئذان، فكيف قدمه والسنة دلت على أن السلام مقدم؟، ومن يقول: الاستئذان هو المقدم على السلام أخذاً بظاهر الآية فهذا فيه نظر فالسنة تفسر القرآن، لكن يمكن أن يقال: إن الواو أصلاً لا تقتضي الترتيب، فالله ذكر الأمرين، والسنة دلت على الترتيب، وأن السلام مقدم على الاستئذان، وأحسن من تكلم عن هذه المسألة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-، وخلاصة ما قاله ذكر المعنيين الأصليين للاستئناس: الأول هو الاستعلام، والثاني أنه يطلق على الاستيحاش فلان يأنس، وفلان استأنس يعني لم يستوحش، فهو يقول: إن هذا الإنسان الذي يستكشف ويستعلم ويستطلع هل يأذنون له بالدخول؟ وهل في البيت أحد؟، يحصل له هذا بالاستئذان، وإنما يأنس الإنسان بإذنهم إذا أذن له الدخول؛ لأن من يقف بالباب فهو مستوحش ما يدري ماذا يلقى؟ كيف يجاب؟ من يخرج إليه؟ ماذا سيقول له؟ فيبقى مستوحشاً فإذا أذنوا له فإنه يأنس بإذنهم، فقال: إنما هذه هي المعاني الأصلية، وجعلها مرتبطة بالاستئذان، وإنما يستعلم هل يأذنون له أو لا؟ وذلك باستئذانه ولا يأنس إلا بإذنهم فهذا كله يدل على أنه يستأذن، لكن من فسر الاستئناس بالاستئذان فلا يكون قد فسره بمعناه الذي يدل عليه دلالة مباشرة -معناه الأصلي-، وإنما كأنه فسره بلازمه أو نحو ذلك، والسلف قد يفسرون باللازم ولا إشكال، وسواء قيل هذا أو هذا حتى تستأنسوا وتسلموا، والإنسان الذي زال عنه الاستيحاش بالاستئذان أو استعلم بطريق الاستئذان يعرف كيف يأذنون أو ما يأذنون بالاستئذان، فيبقى أن الاستئناس أو الاستئذان مقدم على السلام، فيقال: السنة تبين هذا وتوضحه، والواو لا تقتضي الترتيب فيبدأ الإنسان بالسلام عليكم أأدخل؟ قد يقول قائل: اليوم الناس يطرقون الجرس فهذا هو استئذانهم، فكيف يقدم السلام وبيوت الناس صارت كبيرة وليست مثل السابق أن يتحدث عند الباب، فالبيت عبارة عن حجرة أو حجرتين يسمعونه، فيقال: إنه حينما يطرق عليهم فيجيبونه فإنه يبدأ بالسلام، السلام عليكم أأدخل؟ السلام عليكم أنا فلان أو نحو ذلك، ومن أراد أن يدخل بيته أو بيت أهله فإن هذا ينطبق عليه أيضاً، ولكن ذلك يخفف في حقه، لكن الأجنبي لا يدخل حتى يؤذن له، وهذا ليس على مرتبة واحدة في جميع الحالات، فالإنسان إذا كان مدعوًّا وجاء ووجد الباب مفتوحاً أو جاء مع الرسول الذي بُعث إليه فيدخل مباشرة، وإذا كان الإنسان داخلاً على أهله فإن كانت زوجته فإنه يحسن أن يشعرها بدخوله، إما أن تعرف من عادته أن يطرق الجرس طرقة واحدة ثم يدخل أو بالتنحنح كما ورد عن بعض السلف أو نحو ذلك؛ من أجل أن تتهيأ لمقابلته ولا يراها في حال يكرهها، فيفاجئها، والناس لا يحبون هذا، والمرأة لا تحب أن زوجها يفجؤها في دخوله عليها مع أن ذلك لا يجب عليه؛ لأن الله قال: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ، لكن هذا من الأدب الحسن الذي يجب للإنسان أن يفعله، وأما إذا كان في البيت أحد من محارمه كالأخت والأم ونحو هذا والبيت له فالله قال: بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ فجاء عن جماعة من السلف لما سئل بعضهم عن هذا كان يقول للسائل: أتحب أن تراها عريانة؟ يحتاج أن يُشعرها، لكن اليوم في حالنا هذه يمكن أن يقال: هذا يتفاوت ويختلف، فإذا أراد أن يدخل البيت الذي فيه أهله من محارمه من أخواته وزوجته، وقد يكون معه زوجة أو قد لا يكون، فإنه يشعرهم بدخوله، بدخول البيت بالتنحنح، أو بما عودهم، لكنه إذا أراد أن يدخل داراً أو غرفة تختص بإحدى هؤلاء النساء والمحارم فإنه يحتاج أن يستأذن من الناس، فقد تكون في حجرتها متبذلة في لباسها، أو تغير ملابسها فيستأذن؛ لأن ذلك المحل يختص بها، فيفرق بين هذا وهذا، ولهذا السلف يختلف فقههم في هذه المسألة من حين إلى حين، فابن عباس في مسألة الاستئذان كما في قوله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ [سورة النور:58] الآية، كان يرى أن ذلك قبل أن تكون البيوت من الغرف، أو للبيوت ستور وغرف؛ فقد يدخل هذا الصبي أو يدخل هذا المملوك عليهم والرجل يواقع أهله أو نحو ذلك، فذكر العورات الثلاث، فابن عباس يرى أن الله وسع على الناس وصار للبيوت ستور ونحو هذا فالأمر اختلف، لكن هذا يقال في دخول البيت، أما دخول الغرفة المختصة بهم فلابد من الاستئذان بلاشك، لكن الناس الآن توسعوا وصارت بيوت الناس كبيرة، وصار لكل إنسان غرفة تختص به في الغالب أو اثنتان أو نحو هذا، فلا يدخل حتى يستأذن؛ لئلا يقع بصره على ما يكره، أو ما يكره الناس ما يرى منهم، أما دخول البيت عموماً فإنه لا إشكال فيه، ولهذا كان ابن مسعود إذا أراد أن يدخل داره استأنس هكذا جاء في الرواية، بمعنى تكلم ورفع صوته، ومجاهد فسر تستأنسوا قال: تتنحنحوا أو تتنخموا، والآن ضغطة في الجرس تشعرهم ويعرفون هذا منه أو ضغطة معينة له خاصة به يعرفون أن هذا فلان مباشرة، حتى الصغار إذا اعتادوا على هذا وسمعوا ذلك يقولون: فلان جاء، وجاءوا لاستقباله، وهذا الأدب متردد بين الوجوب في بعض الحالات وبين الاستحباب، لكن من أهل العلم من يقول في مسألة تقديم الاستئذان وعدمه: من يقع بصره على إنسان يسلم يقول: السلام عليكم أأدخل؟ وإذا لم يقع بصره فإنه يستأذن، وابن كثير يقول: يقدم الاستئذان، لكن عامة أهل العلم يقولون: نقدم السلام لكن قد لا يتأتى هذا في وضعنا الحالي إلا بما ذكرت، ومسألة الترتيب والواو إلى آخره لا تقتضي الترتيب، وهنا مسائل كثيرة تتعلق بهذا مثل العرف وأثره في هذه القضية، هذا أبو عبد الملك مولى أم سكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب يقول: أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي فلما قام بالباب قال: أندر؟، قالت: أندرون، يعني فهذه تستعمل في بعض النواحي، لكن يقصد بها أخرج، أندر، لكن كانوا يستعملونها بمعنى أأدخل؟، وجاء عن أحمد بن صالح قال: كان الدراوردي من أهل أصفهان نزل المدينة فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل: أندرون، فلقبه أهل المدينة بالدراوردي، فهي كأنها كلمه غير عربية فقالوا له الدراوردي، وتبقى بعض المسائل مثلاً الآن استأذن ثلاثاً إذا كان مدعوًّا أو غلب على ظنه أنهم لم يسمعوه -هو يعرف أن الجرس عندهم ضعيف، أو بعيد عن جلوسهم- يزيد أو لا يزيد؟، فمن أهل العلم من قال: لا يزيد، ومن نظر منهم إلى المقصود، وقال: إن ذلك لا يعني أنهم لا يريدون الإذن له، وإنما لم يسمعوه، فله أن يزيد على ذلك، ولهذا قال الإمام مالك -رحمه الله-: لا أحب أن يزيد على الثلاث إلا إذا علم أنه لم يُسمع، وقصة عمر مع أبي موسى قالوا عن الاستئذان ثلاثاً، كذلك النبي ﷺ استأذن على سعد بن عبادة ثلاثاً السلام عليكم فلم يجيبوه، وإنما أجابه سراً ليستكثر من تسليم رسول الله ﷺ عليهم، وهكذا من الآداب أنه لا يقول: أنا، وقد جاء ما يدل على كراهته في الحديث المخرج في الصحيحين عن جابر استأذنت النبي الله ﷺ فقال:من هذا؟، قلت: أنا، فقال النبي ﷺ: أنا، أنا، كأنه كرهها[1]، هذا بل من الطريف ما جاء عن بعض أهل العلم شعبة بن الحجاج أو غير شعبة أنه كان إذا دُق بابه قال: من هذا؟، وإذا قال المستأذن: أنا، كان يقول: أنا همٌّ دق، همٌّ دق: يعني هذا أمر غير مستساغ ولا مستحسن؛ لأنه إذا قال: أنا لم يجب، وكذلك إذا أتى بكنية غير معروفة كأن يقول مثلا: أبو محمد فكم من الناس أبو محمد، فعليه أن يذكر ما يعرف به، ويتميز، فلا يلتبس مع غيره، وابن كثير تعرض إلى بعض هذه المسائل التي أشرت إليها، وليس من العادة.
وروى الإمام أحمد عن أنس -أو: غيره- أن رسول الله ﷺ استأذن على سعد بن عبادة فقال:السلام عليك ورحمة الله، فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي ﷺ حتى سلم ثلاثًا، ورد عليه سعد ثلاثًا ولم يُسْمعه، فرجع النبي ﷺ، واتبعه سعد فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما سلمتَ تسليمة إلا وهي بأذني، ولقد رَدَدْت عليك ولم أُسْمِعك، وأردتُ أن أستكثر من سلامك ومن البركة، ثم أدخله البيت، فقرَّب إليه زَبيبًا، فأكل نبي الله، فلما فرغ قال: أكل طعامَكم الأبرار، وصَلَّت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون[2].
ثم ليُعْلمْ أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليَكن البابُ عن يمينه أو يساره؛ لما رواه أبو داود عن عبد الله بن بُسْر قال: كان رسول الله ﷺ إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم، السلام عليكم، وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور[3]، تَفرد به أبو داود.
وفي الصحيحين، عن رسول الله ﷺ أنه قال: لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فَخَذَفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح [4].
وأخرج الجماعة عن جابر قال: أتيتُ النبي ﷺ في دَين كان على أبي، فدققت الباب، فقال:من ذا؟، قلت: أنا، قال: أنا، أنا، كأنه كرهه.
وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يُعرَف صاحبها حتى يُفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها، وإلا فكل أحد يُعبِّر عن نفسه بـ"أنا"، فلا يحصل بها المقصود من الاستئذان الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس: الاستئناس: الاستئذان، وكذا قال غيرُ واحد.
وقد روى الإمام أحمد أن كَلَدَةَ بن الحنبل أخبره أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بِلبَأ وجَدَايَة وضَغَابيس، والنبي ﷺ بأعلى الوادي، قال: فدخلتُ عليه ولم أسلم ولم أستأذن، فقال النبي ﷺ:ارجع فقل: السلام عليكم، أأدخل؟، وذلك بعدما أسلم صفوان[5].
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن غريب.
يقول روى الإمام أحمد عن كلدة بن الحنبل، كلدة بن عبد الله، وقيل: كلدة بن قيس هذا أخٌ لصفوان بن أمية لأمه هو الذي شهد معه موقعة حنين، وقال ما قال في القصة المعروفة لما هزم المسلمون في أول الأمر قال: الآن بطل سحر محمد، والله لا يردهم إلا البحر، فقال له صفوان: اسكت ثكلتك أمك، والله لئن يَرُبَّني رجل من قريش أحب إلي من أن يَرُبَّني رجل من هوازن، هذا أخوه لأمه كلدة بن الحنبل قال: إن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبأ، واللبأ بالفتح أو الكسر، هو يكون بعد الولادة يكون حتى هذا في المرأة ولذلك يقول الأطباء: الإرضاع في أول الأيام في غاية الضرورة؛ لأن الصبي لا يستغني عن هذا بحال، فيكون في الأيام الأولى من الولادة فهذا الحليب أو اللبن إذا أخذ فإذا عرضته على النار غلي فإنه ينعقد يتخثر حتى إنه لا يشرب شرباً، وإنما يؤكل أكلاً، قال: بلبأ وجداية، والجداية يعني ما له حتى ستة أشهر أو ما لم يبلغ ستة أشهر من ولد الظبية ذكراً كان أو أنثى يقال له: جداية، قال: جداية وضغابيس، والضغابيس هي صغار القثاء، والقثاء هو القرع، فهو من جنس الخيار، قثاء، كان يأكل القثاء بالرطب، والنبي ﷺ بأعلى الوادي، يعني بأعلى مكة بوادٍ غير ذي زرع يعني كان بأعلى مكة عام الفتح.
وقال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس ، قال: ثلاث آيات جَحَدها الناس: قال الله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [سورة الحجرات:13]، قال: ويقولون: إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتًا، قال: والإذن كله قد جحده الناس، قال: قلت: أستأذن على أخواتي أيتام في حجري، معي في بيت واحد؟ قال: نعم، فرددت ليرخِّص لي، فأبى، قال: تحب أن تراها عريانة؟ قلت: لا، قال: فاستأذن، قال: فراجعته أيضاً، فقال: أتحب أن تطيع الله؟ قلت: نعم، قال: فاستأذن.
قال ابن جُرَيْج: وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال: ما من امرأة أكره إليّ أن أرى عريتها من ذات محرم، قال: وكان يشدد في ذلك.
وقال ابن جريج، عن الزهري: سمعت هُزَيل بن شُرَحْبِيل الأوْدِيّ الأعمى، أنه سمع ابن مسعود يقول: عليكم الإذن على أمهاتكم.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا.
وهذا محمول على عدم الوجوب، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها.
وروى أبو جعفر بن جرير عن ابن أخي زينب -امرأة عبد الله بن مسعود-، عن زينب -ا-، قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق؛ كراهية أن يهجُم منا على أمر يكرهه[6]. إسناد صحيح.
لهذا الإمام مالك -رحمه الله- يقول: أرى أن يستأذن على أمه وأخته، والإمام أحمد -رحمه الله- يقول: يتنحنح، ويحرك الباب يعني يشعرهم متى إذا دخل بيته، وفيه أمه أو أخته أو نحو ذلك.
وقال مقاتل بن حيَّان في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه لا يسلم عليه، ويقول: حُيِّيتَ صباحًا وحييت مساء، وكان ذلك تحية القوم بينهم، وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم، ويقول: "قد دخلتُ"، فيشق ذلك على الرجل، ولعله يكون مع أهله، فغَيَّر الله ذلك كله، في ستر وعفة، وجعله نقيًا نزِهًا من الدنس والقذر والدرَن، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا.
وهذا الذي قاله مقاتل حسن؛ ولهذا قال: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يعني: الاستئذان خير لكم، بمعنى: هو خير من الطرفين: للمستأذن ولأهل البيت، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
- رواه البخاري، كتاب الاستئذان، باب إذا قال من ذا؟ فقال: أنا، برقم (5896)، ومسلم، كتاب الآداب، باب كراهة قول المستأذن أنا إذا قيل من هذا؟، برقم (2155).
- رواه أحمد في المسند، برقم (12406)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصحح إسناده الألباني في آداب الزفاف (98).
- رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان؟، برقم (5186)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4638).
- رواه البخاري، كتاب الديات، باب من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان، برقم (6493)، ومسلم، كتاب الآداب، باب تحريم النظر في بيت غيره، برقم (2158).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة وأن من تمسك بما أمر به دخل الجنة، (15)، وأبو داود، كتاب الأدب، باب كيف الاستئذان، برقم (5177)، والترمذي واللفظ له، كتاب الاستئذان عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في التسليم قبل الاستئذان، برقم (2710).
- رواه أحمد في المسند، برقم (3615)، وقال محققوه: صحيح لغيره.