الأربعاء 21 / ذو الحجة / 1446 - 18 / يونيو 2025
إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍۭ بَعِيدٍ سَمِعُوا۟ لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: إِذَا رَأَتْهُم أي: جهنم، مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ يعني: في مقام المحشر، سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا أي: حنقاً عليهم كما قال تعالى: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ۝ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [سورة الملك:7-8] أي: يكاد ينفصل بعضها من بعض من شدة غيظها على من كفر بالله".

إِذَا رَأَتْهُم أي: جهنم، هذا لا حاجة لتأويله، والتكلف في حمله على محامل تخالف ظاهره، إِذَا رَأَتْهُم هذا يدل على أنها ترى، إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ فالنار ترى، أثبت الله لها الرؤية، كما أثبت لها الكلام يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ [سورة ق:30] من الذي يقول: هَلْ مِن مَّزِيدٍ هل هم الكفار الذين فيها؟ قطعاً لا، هل هم الملائكة؟ أيضاً هذا خلاف ظاهر القرآن، فإذا كانت تتكلم، وتجيب، ويخرج عُنُق من النار ويقول: وُكلت بثلاثة، وذكر منهم المصورين[1]، فما الذي يمنع أيضاً من كونها تَرى؟ فلا يصح العدول عن هذا الظاهر، والتعسف والتكلف في حمله على معانٍ بعيدة لا دليل عليها، إِذَا رَأَتْهُم أي: جهنم، مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا وذلك أنه يؤتى بها إليهم كما جاء في الحديث: يؤتى بالنار لها سبعون ألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك[2]، يعني يقودونها، يؤتى بها، فإذا جيء بها رأتهم من مكان بعيد فسمعوا لها تغيظاً، وزفيراً.

قد يقول طالب العلم: سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا التغيظ هو الحنق، فالغيظ شيء في النفس، احتراق في الداخل، وغليان، والزفير يسمع، ولكن التغيظ هل يسمع؟ فابن جرير - رحمه الله - يقول: المعنى سمعوا لها صوت تغيظ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا فهي لتغيظها يُسمع لها صوت يدل على ذلك وهو صوت التلهب، والتوقد الشديد، التوقد والتلهب، وأيضاً أجاب عنه كثير من أهل العلم منهم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي يقول: سمعوا صوت غليانها من بعيد، صوت الغليان، وهذا مثل قول ابن جرير: صوت التلهب والتوقد، لكن هذا الغليان الصوت الذي يسمعونه ليس بصوت النار المعتاد إذا كانت شديدة التوقد، وإنما ذلك كائن بسبب التغيظ، بسبب تغيظها، فلما كان سبب هذا الصوت سبب هذا التوقد الشديد، أو الغليان؛ سببه التغيظ أطلقه عليه، فأطلق اسم السبب على المسبب، ودل هذا على أن النار ليست كنار الدنيا من هذه الحيثية، أيضاً هي ليست مثلها من جهة شدة الإحراق، والنبي ﷺ أخبر أنها فضلت عليها بسبعين جزءاً، بسبعين ضعفاً، حتى لو فضلت بسبعين فهي ليست مجرد نار مشتعلة يعني مثل الآن النار في الدنيا تختلف تتفاوت نار الحداد أقوى من النار التي يوقدها آحاد الناس ليصطلي عليها مثلاً، نار جهنم مع تفضيلها بسبعين إلا أنها ترى وتتكلم، وتتغيظ ويخرج منها عنق، وفيها حنق شديد، وغليان، وفوران، وأصوات وزفير، والزفير الصوت الذي يسمع من الإنسان بحال البكاء مثل النَّفَس الذي يكون مع بكاء مثلاً فيحصل منه شهيق وزفير، فهي في غاية الغيظ على هؤلاء الذين يعذبون فيها، ليست ناراً محرقة فقط إنما نار محرقة، ولها إدراك وإحساس، وهي أيضاً في غاية الحنق، وإذا كان الآدمي في غاية الحنق، وظفر بعدوه؛ فإنه يفتك به؛ فما بالك بهذه النار يوم تغيظ عليه بمجرد أن تراه من بعيد، يسمعون صوتاً مفزعاً يدل على شدة هذا الغيظ - عافانا الله، وإياكم، ووالدينا، وإخواننا المسلمين منها -.

"وروى الإمام أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس قال: إن الرجل ليُجَر إلى النار، فتنزوي وتنقبض بعضها إلى بعض، فيقول لها الرحمن: ما لك؟ قالت: إنه يستجير مني، فيقول: أرسلوا عبدي، وإن الرجل ليُجَرّ إلى النار فيقول: يا رب! ما كان هذا الظن بك؟ فيقول: فما كان ظنك؟ فيقول: أن تَسَعني رحمتك، فيقول: أرسلوا عبدي، وإن الرجل ليجر إلى النار، فتشهق إليه النار شهقة البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف[3]، وهذا إسناد صحيح".

الحافظ ابن كثير صحح إسناده، والمحقق ما أدخله في هذا التفسير إلا بناء على صحته عنده، وفي إسناده رجل يقال له: أبو يحيى القتات تكلموا فيه؛ ولهذا ضعفه بعض أهل العلم، ومسألة التصحيح والتضعيف هي مسألة اجتهادية لاعتبارات معينة تتصل بقواعد هذا العلم، ومن جهة أخرى في تطبيقات هذه الأصول والقواعد، وما يسمى عند الأصوليين بتحقيق المناط، يعني: هل ينطبق ذلك على هذا أو لا؟ فيختلفون تارة في هذا وتارة في هذا، فتأتي أحكامهم مختلفة، وأحياناً يكون ذلك بسبب القصور، يعني يكون للحديث طرق أخرى ففاته، أو بسبب وهم وقع له ظن أن هذا الراوي هو فلان فصحح الحديث أو نحو هذا من الأمور المعروفة، فهذه مسألة اجتهادية، وما كان في هذا الكتاب في هذا المختصر من هذا القبيل فهو مسبوق إلى تصحيحه، وتبقى الأحاديث التي يمكن أن يخالف فيها قليلة نسبياً على كثرة الروايات، ومن يخالفه فيها لا يزعم أن ما قاله خطأ بنحو مائة بالمائة في كل الأحوال.

وأرسل لي أحد الإخوان مرة رسالة من بعض هذه الرسائل التي ترسل للناس عن طريق اشتراك يذكر فيها عن بعض من قال: إن الكتاب فيه كثير من الأحاديث الضعيفة؛ هكذا بإطلاق القول جزافاً، وهذا الكلام غير صحيح، وقد تتبعت الأحاديث التي فيه كل الأحاديث تتبعتها على كلام أهل العلم، في كثير من الأحيان أرجع إلى أقوال المتقدمين، والمتأخرين، أقول هذا الكلام عن تتبع: هذا الكلام غير صحيح، ولا يصح نشر مثل هذا الكلام، ومن قال مثل هذا أيضاً هو ليس من العلماء الذين يؤخذ عنهم هذا العلم، الإنسان يتحرى في مثل هذه الأشياء، ولا يستعجل، فإن كلمة مثل هذه غير صحيحة تصل إلى آلاف مؤلفة، ربما يشترك في هذا الجوال سبعون ألفاً أو أكثر، ثم ينقلونه إلى غيرهم، ويرسلونه إلى مثلهم، ويتصورون بعد ذلك تصورات غير صحيحة؛ تصدر منهم أحكام غلط، فيبخسون الكتاب حقه، هذا الكتاب من أحسن مختصرات ابن كثير.

وهذا الحديث يدل على تغيظها، وأن الآية تدل على هذا المعنى، وكذلك الحديث الذي ذكره النبي ﷺ: لا يزال يلقى في النار وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار فيها قدمه - في الرواية الأخرى: رجله -، فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط، كفاني كفاني[4] هذا كله يدل على أنها تدرك، وتتكلم، وتشعر؛ ولذلك اشتكت إلى ربها، اشتكت الجنة والنار فقالت: أكل بعضي بعضاً، وهذا يدل على أنها موجودة الآن، كما أن الجنة موجودة، والنبي ﷺ رأى الجنة والنار، ورأى عمرو بن لحي بن قمئة الخزاعي أول من غيَّر دين إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، وأول من سيب السائبة؛ يجر قصبه في النار، إلى غير ذلك من الأدلة التي تدل على هذا المعنى.

"وروى عبد الرزاق عن عبيد بن عمير في قوله: سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا قال: "إن جهنم تزفر زفرة لا يبقى ملك، ولا نبي مرسل؛ إلا خَرّ لوجهه تَرْتعَد فرائصه، حتى إن إبراهيم ليجثو على ركبتيه، ويقول: رب لا أسألك اليوم إلا نفسي[5]".

عبيد بن عمير من التابعين، فهذا من قبيل المرسل، والمعنى له حكم الرفع في الأصل، ولو أن الكتاب جرد من مثل هذا لكان أولى.

  1. رواه الترمذي، كتاب صفة جهنم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في صفة النار، برقم (2574)، والإمام أحمد في المسند، برقم (8430)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (8051)، وفي السلسلة الصحيحة، برقم (512).
  2. رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، برقم (2842).
  3. جامع البيان في تأويل القرآن، لأبي جعفر الطبري (19/244).
  4. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله - تعالى -: وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [إبراهيم:4]، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات:180]، وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ [المنافقون: 8]، ومن حلف بعزة الله، وصفاته، برقم (7384).
  5. جامع البيان في تأويل القرآن، لأبي جعفر الطبري (19/244).