"وقوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ... الآية، هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر، فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال - التي ظنوا أنها منجاة لهم - شيء؛ وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي: إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله، فكل عمل لا يكون خالصاً، وعلى الشريعة المرضية؛ فهو باطل، فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معاً، فتكون أبعد من القبول حينئذ؛ ولهذا قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا.
وقوله تعالى: فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي في قوله: هَبَاءً مَنْثُورًا قال: شعاع الشمس إذا دخل الكُوَّة، وكذا روي من غير هذا الوجه عن علي، ورُوي مثله عن ابن عباس ومجاهد، وعكرمة وسعيد بن جُبَير، والسُّدِّي والضحاك ... وغيرهم، وكذا قال الحسن البصري: "هو الشعاع في كُوّة أحدهم، ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع"".
هم حينما قالوا: الشعاع، لا يقصدون ذات الشعاع، وإنما ما يكشف عنه الشعاع إذا دخل من الكوة يعني: من النافذة، يعنون به تلك الأجزاء الصغيرة جداً المتطايرة في الهواء، هذا معروف، فليس ذات الشعاع وإنما ما يبين عنه الشعاع، ويظهره، ويكشف عنه، وهذا لا يختص بهذه الحال لكننا لا نشاهد، وإلا فالهواء من حولنا تتطاير فيه هذه الأشياء بكثرة، ولو قدر للإنسان وضْع جهاز يكبر له هذه الأمور والأجزاء الصغيرة جداً لربما لم تطب له الحياة برمتها، ولم يطب له الطعام، ولم يهنأ بنوم، وكل ما حولك ترى فيه أشياء، وأجزاء تتطاير، وأشياء؛ تتحرك، ولو نظر الإنسان إلى وسادته لرأى أشياء غريبة، وعجيبة، ومخلوقات ذوات خراطيم، وأشياء ليس لها خراطيم، فإذا كبرت ربما توهم أنها أمثال الفيلة، لكن من لطف الله بالإنسان أنه لا يشاهدها، حتى التراب مليء بهذه الكائنات، والمخلوقات اليسيرة، فالهواء مليء، فإذا جاءت أشعة الشمس كشفت عن شيء من ذلك، ومجموع كلام السلف في تفسير الهباء يدل على أنه الشيء المتفرق الذي لا يستحصل منه عناء لا قليلاً، ولا كثيراً، فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا فلا يحصل صاحبه منه على شيء، مثل هذا الذي في الكُوّة يظهر من شعاع الشمس في الكوة، ومثل ما يتطاير من حوافر الدواب من الغبار، إلى غير ذلك مما يشبه ذلك، والمعنى يرجع إلى شيء واحد وهو أن الله أبطل أعمالهم، وأذهبها، والله المستعان.
هذا مثال على ما يسمونه باختلاف التنوع، يعني عبارات متقاربة لكنها ترجع إلى شيء واحد، ومثل هذا لا يحتاج إلى ترجيح، فليس ذلك من الاختلاف في شيء، وحاصل المعنى هو ما ذكره ابن كثير - رحمه الله -.
شبهها بهذه الأمور: صفوان عليه تراب، صفوان حجر أملس، فعليه تراب، فيظن أنه إذا نزل عليه المطر أنبت، ولكنه بمجرد ما ينزل عليه المطر يذهب ذلك التراب عنه فيكون صلداً، قال: لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ فهي بنفس المعنى.
وعلى هذا تكون كلمة "منثوراً" هو الهباء فتكون صفة كاشفة، وهذا كما لو قلت: رجل ذكر، تكون "ذكر" صفة كاشفة ما هي مقيِّدة، لكن لو قلت: رجل طويل، تكون صفة مقيدة.