الثلاثاء 20 / ذو الحجة / 1446 - 17 / يونيو 2025
أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً أي: يوم القيامة لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [سورة الحشر:20] وذلك أن أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات، والغرفات الآمنات، فهم في مقام أمين، حسن المنظر، طيب المقام خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [سورة الفرقان:76]، وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات، والحسرات المتتابعات، وأنواع العذاب والعقوبات إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [سورة الفرقان:66] أي: بئس المنزل منظراً، وبئس المقيل مقاماً؛ ولهذا قال تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً أي: بما عملوه من الأعمال المتقبلة نالوا ما نالوا، وصاروا إلى ما صاروا إليه، بخلاف أهل النار فإنه ليس لهم عمل واحد يقتضي لهم دخول الجنة، والنجاة من النار، فَنَبَّه - تعالى - بحال السعداء على حال الأشقياء، وأنه لا خير عندهم بالكلية.

وقال سعيد بن جبير: يَفرُغ الله من الحساب نصف النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار قال الله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً.

وقال عكرمة: إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار وهي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر، إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة، فينصرف أهل النار إلى النار، وأما أهل الجنة فيُنطلق بهم إلى الجنة، فكانت قيلولتهم في الجنة، وأُطعموا كبد حوت فأشبعهم كلهم، وذلك قوله: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً".

كلمة خير تستعمل بمعنى التفضيل: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا، ولكنها هنا ليست بمعنى التفضيل؛ لأن أفعل التفضيل إنما تكون بين شيئين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر فيها، فتقول: زيد أكرم من عمرو، وزيد أعلم من عمرو، اشتركا في صفة وزاد أحدهما، لكن هنا لا مجال للمقارنة:

أمَا تَرى أنّ السيفَ يَنقصُ قدرُه إذا قيل إنّ السيفَ أمضى من العصا

لا مجال للمقارنة والمفاضلة بين أصحاب النار وأصحاب الجنة، وهذا كثير في القرآن، فذلك يقال فيه: إن "خير" أو أفعل التفضيل ليس على بابه، وإنما المقصود به مطلق الاتصاف.

خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً أخذ منه بعض أهل العلم أنهم يدخلون الجنة في منتصف النهار؛ لأنه وقت القيلولة، وذلك في نصف النهار، قد يسأل سائل ويقول: وهل يوجد في الجنة نوم، فالنومة موتة، وأهل الجنة لهم الحياة الكاملة، والحياة الكاملة التي لا يعتريها نقص، والنوم هو نوع موتة: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [سورة الزمر:42] فهذا مخالف للحياة الكاملة، هو في الحياة يعتبر كمالاً نسبياً باعتبار أن الذي لا ينام مريض يحتاج إلى علاج، لكنه ليس من الكمالات المطلقة، لهذا القاعدة المعروفة التي يذكرونها في المثل الأعلى: "أن كل كمال اتصف به المخلوق؛ فالخالق أولى به؛ لأنه واهب الكمال"، فهذه القاعدة ينبغي أن تفهم على وجهها، مع أن السلف لم يثبتوا بها شيئاً من الصفات استقلالاً، لكن في مقام الرد على المخالفين، لا بد أن يفهم هذا، وأن الوصف الذي يذكرونه ويقولون: كل كمال؛ المقصود به الكمال المطلق؛ لأن من الكمال ما هو نسبي، ومنه ما هو مطلق، فالنسبي مثل الزواج، المتزوج أكمل من غير المتزوج، هذا كمال نسبي، الذي يرزق بأولاد أكمل أو الذي لا يرزق بأولاد؟ الذي يرزق بأولاد، فالولد يكون كمالاً نسبياً، بمعنى: هل هذا يصلح أن ينسب إلى الله ؟ حاشا وكلا، وإنما يحتاج إليه المخلوق، ويكون كمالاً في حقه؛ لأنه مفتقر إليه، مفتقر إلى الزوجة، وهو مفتقر إلى الولد، وهكذا أيضاً فيما يتعلق بالنوم هو مفتقر إلى النوم لم ينم فإنه لا يمكن أن تحمله قواه على القيام بشيء من مصالحه، يكون في غاية الاعتلال، والإنهاك، والتعب، هذا مرض يحتاج إلى علاج، والله امتن على الناس بهذا، هذا من الكمالات النسبية، فأهل الجنة ليس عندهم نوم، فالحياة كاملة، لا يحتاجون إلى النوم، ما يتعبون، فإذاً المراد بقوله: وَأَحْسَنُ مَقِيلاً المقيل لا يعني النوم، وإذا أريد به النوم قُيد فقيل: نوم القيلولة، لكن الراحة في هذا الوقت، هو وقت راحة وقت توقف عن الأعمال، يقال له مقيل، الآية: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا أنهم لا ينامون، أليس الحديث الذي ذكر فيه: أنهم لا يتمخطون ولا...[1]، قال فيه: ولا ينامون[2]، فهذا له حكم الرفع، ولا يقال من جهة الرأي، وراويه لا يُعرف بالأخذ عن بني إسرائيل إطلاقاً، وهذا من المنقول، والحاجة إلى النوم نسبته إليه منتفية، كمال الحياة أيضاً ينفي ذلك؛ ولهذا يقال في الكلام في الاشتراك في الصفة بين الخالق والمخلوق: إن ذلك لا يقتضي المماثلة، فالحياة يوصف بها الخالق، ويوصف بها المخلوق، لكن حياة الخالق يقوم بنفسه، وحياته غير مسبوقة بعدم، ولا يلحقها عدم، ولا يعتريها نقص من نوم، أو مرض، أو ما يعتور حال الآدميين، حياة المخلوق تختلف، فمما يعتريها النوم، ونقْصٌ فيها بلا شك.

  1. رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر وصفاتهم وأزواجهم، برقم (2834).
  2. لم أجده.