الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
وَلَقَدْ صَرَّفْنَٰهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا۟ فَأَبَىٰٓ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال - رحمه الله -: "وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ضمير صرفناه ذهب الجمهور إلى أنه راجع إلى ما ذكر من الدلائل أي: كررنا أحوال الإظلال، وذكْر إنشاء السحاب، وإنزال المطر في القرآن، وفي سائر الكتب السماوية؛ ليتفكروا، ويعتبروا"[1].

الذي يتبادر إلى الذهن من قوله: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ أنه المطر، هنا هذا القول الذي ذكره: صَرَّفْنَاهُ يعني ما سبق من الدلائل، أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ۝ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا فهذه الدلائل صرّفها الله ذكرها في مواضع من القرآن دليلاً على قدرته، ووحدانيته، وعظمته، فلم يتعظوا، ولم يعتبروا.

وقال - رحمه الله -: "فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة، وجحدها، وقال آخرون: إنه يرجع إلى أقرب المذكورات وهو المطر، أي: صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة، فنزيد منه في بعض البلدان، وننقص في بعض آخر منها"[2].

وهذا هو الأقرب وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ يعني المطر.

وقال - رحمه الله -: "وقيل: الضمير راجع إلى القرآن، وقد جرى ذكره في أول السورة حيث قال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [سورة الفرقان:1]"[3].

يعنى صرّفه بمعني: ذكر فيه الأمثال، والعبر، ودلائل القدرة، وما أشبه ذلك.

وقال - رحمه الله -: "وقوله: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي، وقوله: اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا والمعنى: ولقد كررنا هذا القرآن بإنزال آياته بين الناس ليذكروا به، ويعتبروا بما فيه؛ فأبى أكثرهم إِلَّا كُفُورًا به، وقيل: هو راجع إلى الريح، وعلى رجوع الضمير إلى المطر فقد اختلف في معناه، فقيل ما ذكرناه، وقيل: صرفناه بينهم وابلاً، وطشَّاً، وطلاً، ورذاذاً، وقيل: تصريفه تنويع..."[4].

قوله: صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ يعني: المطر يأتي على صور متعددة، والقول الأول: إنّ صرفناه بمعنى ينزل على ناحية دون ناحية، على بلاد دون بلاد، يتنقل.

وقال - رحمه الله -: "وَقِيلَ: تَصْرِيفُهُ تَنْوِيعُ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الشُّرْبِ، وَالسَّقْيِ، وَالزِّرَاعَاتِ بِهِ، وَالطَّهَارَاتِ، قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً هُوَ قَوْلُهُمْ: فِي الْأَنْوَاءِ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذا"[5].

صرّفناه يعني في وجوه الانتفاع، صرفناه في صور نزوله، تارة ينزل وابلاً، وتارة طشاً، وتارة رذاذاً، وتارة دِيَماً، أو صرفناه بمعنى حولناه من ناحية إلى ناحية، فتجدب أرض، وتحيا أخرى؛ هذه احتمالات، والكلام يحتمل هذا بهذا التصريف، لكن حينما يقرأ الإنسان مثل هذه الآيات قد لا ترد هذه المعاني في ذهنه، وهذه فائدة العلم والاطلاع، فإنه يتسع معه الصدر، وينفسح، وكلما ازداد علماً كلما ازداد انشراحاً في الصدر، والجهل يضيق عَطنه، وازدياد العلم يكون فيه زيادة في مدارك الإنسان، واتساع الأفق.

"وقوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا أي: أمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب يمر على الأرض، ويتعداها، ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى، فيمطرها، ويكفيها، ويجعلها غَدَقاً، والتي وراءها لم يَنزل فيها قطرة من ماء، وله في ذلك الحجة البالغة، والحكمة القاطعة".

والأقرب - والله أعلم - وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير، واختاره جماعة من أهل العلم من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - اختار هذا القول صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ يعني: تحول من ناحية إلى أخرى.

"قال ابن عباس وابن مسعود : "ليس عام بأكثر مطراً من عام، ولكن الله يصرفه كيف يشاء، ثم قرأ هذه الآية: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا أي: ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات، والعظام، والرفات، أو ليذكّر من مُنع المطر إنما أصابه ذلك بذنب أصابه، فيقلع عما هو فيه".

يتذكرون عظمة الله، وقدرته، ووحدانيته؛ ليحصل الاعتبار، والاتعاظ بمن مُنع، يتذكر فيلجأ إلى الله، ويتضرع إليه، ويستغيث، يستسقي؛ لأن ذلك إذا وقع للمؤمن فإن ذلك يحمله على اللجوء إلى الله، بل كان الكفار في حال الشدة يلجئون إلى الله - تبارك وتعالى -، فينزل على أقوام فيشكرون، وينحبس عن أقوام فيتذكرون، يعني ما هم فيه من تقصير، وغفلة، وينيبون إلى الله - تبارك وتعالى -، هذا من المعاني الداخلة تحته.

وقوله: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا قال عكرمة: "يعني الذين يقولون: مُطرنا بنَوء كذا وكذا" وهذا الذي قاله عكرمة كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم عن رسول الله ﷺ أنه قال لأصحابه يوماً على أثر سماء أصابتهم من الليل: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي، كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذاك كافر بي، مؤمن بالكوكب[6].

هذا هو المعنى المتبادر فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا يدل عليه هذا الحديث، ومِن كفرهم قولهم: مطرنا بنوء كذا، ونسبة ذلك إلى غير الله ، والشنقيطي - رحمه الله - يقول: قول المعاصرين: مطرنا بالبخار، يعني تبخر الماء من البحار وغيرها، فيرتفع إلى الطبقات العليا، ثم يتكثف إلى آخره، وإنما يقول الإنسان: مطرنا بفضل الله، وبرحمته فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا؛ فهذا داخل فيه، يعني من قال: مطرنا بالكوكب مثلاً، ولكن المعنى أعم من هذا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا أي: أنهم لم يشكروا نعمة الله عليهم، ولم يعبدوه، وإنما صرفوا العبادة إلى غيره، أو أعرضوا عن عبادته، هذا المعنى الأعم، ويدخل فيه من نطق وأضاف ذلك إلى غير الله صراحة، كأن يقول: مطرنا بنوء كذا، لكن المعنى لا يختص بهذا، ما ينحصر بمن قال هذا، فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا كل كافر، كل معرض، كل غافل عن هذه النعم التي يفيضها الله على عباده، فهو لم يشكرها بل كفر بها، هذا المعنى الذي ذكر يقول النحاس: لا أعلم فيه خلافاً بين المفسرين، مع أنه يوجد في أقوال المفسرين غير هذا - والله تعالى أعلم -.

  1. فتح القدير للشوكاني (4/94).
  2. فتح القدير للشوكاني (4/94).
  3. فتح القدير للشوكاني (4/94).
  4. فتح القدير، للشوكاني (4/94).
  5. فتح القدير، للشوكاني (4/94).
  6. رواه البخاري، كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، برقم (846)، وبرقم (4147)، في كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء، برقم (71).