قوله - تبارك وتعالى -: إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً الاستثناء هنا منقطع على الراجح، وإن وجد من قال بأنه متصل، فيكون المعنى قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ لكن مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً التصدق، التقرب إلى الله بما يبذل من أموال، فهذا باب في التعبد، والتقرب إلى الله ، لكن لا يرجع إليّ من ذلك شيء، فذلك يعني أنه متجرد من طلب أموالهم، وليس له حظ في ذلك، متنزه عنها، ولا شك أن هذا هو الطريق المفتاح لقلوبهم، وأن سؤال الأموال منهم أن ذلك إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [سورة محمد:37] فالناس يثقل عليهم من سأل منهم الأموال، وقد يتثاقلون عن إجابته، أو يردون دعوته بهذا الاعتبار، ومن ثَمّ كما سبق أنه ينبغي لمن يتصدى للدعوة أن يكون متجرداً لا يطلب بهذه الدعوة شيئاً لنفسه، لا من الحظوظ المادية (الأموال)، ولا يطلب بذلك ولايات، ومناصب، كما لا يطلب بذلك أيضاً حظوظاً معنوية من الشهرة، والمنزلة في قلوب الخلق، والحظوة عندهم، فإن ذلك يضعف أثر الدعوة، ويكون ثقيلاً على القلوب، ولا يحصل لكلامه نفع، وعلى قدر ما يكون عند الإنسان من التجرد على قدر ما يُبارَك في علمه، أو كلامه، أو في دعوته، ويكون له من القبول، والمحبة في قلوب الخلق.
والحاصل: أنه لا يصح بحال من الأحوال أن تكون الدعوة تجارة، ممكن الإنسان يتاجر ببيع وشراء، ولكن لا يتاجر بالدعوة، فمن تحولت عنده الدعوة إلى تجارة فإن ذلك مؤذن برد دعوته، وعدم القبول، وقد تكلمت على هذا المعنى في بعض المناسبات السابقة لكنه في غاية الأهمية؛ لأن هذا للأسف أصبح الآن مرضاً يتفشى وينتشر، والشيطان يقعد لكل أحد فيأتي لربما من اشتغل بالدعوة إلى الله ، فيحصل الأموال الطائلة بسبب دعوته، ممكن ببرنامج من حلقات قصيرة في قناة من القنوات يُكوّن أربعمائة ألف ريال، أنا أتحدث عن أشياء واقعية، ممكن حلقة واحدة بثلاثين ألف ريال، الشريط الواحد بأربعمائة ألف ريال، شريط كاسيت محاضرة، ختمة قرآن؛ أربعمائة ألف ريال، أربعمائة وخمسون ألف ريال، ممكن هذا، اشتراك في حملة حج مائة ألف ريال، فهذا خطير، فإذا قلنا: إن الداعية قد يسقط بسبب الاشتغال بالدنيا اشتغل بالتجارة أو نحو ذلك بأن يلهو عن دعوته، وينشغل وينصرف، وطالب العلم ينصرف بالانشغال بالدنيا، والبيع، والشراء، فهذا أخطر: أن يبقى في الصورة على دعوته، ولكنه اتخذها تجارة يحصل بها الملايين مما لا يحصله لربما في بيع أو شراء.
المقصود: أن الدعوة ليست تجارة، ويُتفطن لهذا، على قدر تجردنا على قدر ما يحصل من النفع، والبركة، والخير، والقبول، ونحن أحوج ما نكون هذه الأيام إلى هذه الأوصاف، وهذا معنى أو أحد المعاني الداخلة تحت قوله: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ [سورة آل عمران:79].