الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُوا۟ لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا۟ وَمَا ٱلرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ۩

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى منكراً على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام، والأنداد: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أي: لا نعرف الرحمن، وكانوا ينكرون أن يُسَمَّى الله باسمه الرحمن، كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي ﷺ للكاتب: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا: لا نعرف الرحمن، ولا الرحيم، ولكن اكتب كما كنت تكتب: باسمك اللهم"[1]؛ ولهذا أنزل الله - تعالى -: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى [سورة الإسراء:110] أي: هو الله، وهو الرحمن، وقال في هذه الآية: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أي: لا نعرفه، ولا نُقر به، أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا أي: لمجرد قولك؟، وَزَادَهُمْ نُفُورًا، فأما المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم، ويُفْرِدُونه بالإلهية، ويسجدون له، وقد اتفق العلماء - رحمهم الله تعالى - على أن هذه السجدة التي في الفرقان مشروعٌ السجودُ عندها لقارئها، ومستمعها، كما هو مقرر في موضعه - والله أعلم -".

قوله - تبارك وتعالى -: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ يدل على إنكارهم لهذا الاسم الكريم، ويدل على ذلك الحديث الذي ذكره في قصة الحديبية، ولكن هل كانوا ينكرونه فعلاً، ويعتقدون ذلك، ولا يعرفون أنه الرحمن، وأن هذا شيء قد استجد عليهم لا عهد لهم به؟ أو أنهم قالوا ذلك على سبيل المكابرة؟

ذهب جمع من أهل العلم ومنهم ابن جرير - رحمه الله - وقد سبق الكلام على هذا في بعض المناسبات في الأسماء الحسنى، وكذلك في أول التفسير؛ إلى أنهم كانوا يعرفون الرحمن، ووُجد في الجاهلية من تسمى بعبد الرحمن، وكذلك أيضاً جاء في أشعارهم قول بعضهم:

ألَا ضَرَبَتْ تِلكَ الفتاة هَجينَهَا ألا قضَبَ الرحمنُ ربِّي يمينَها

ذكرها ابن جرير في أول التفسير.

جاء في كلامهم في شعرهم في الجاهلية؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إنهم قالوا هذا على سبيل المكابرة، فكانوا يعرفون الرحمن، وعلى هذا يكون الإنكار على سبيل المكابرة، وقوله هنا: أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا يقول: أي: لمجرد قولك نسجد للشيء الذي لا نعرفه؟، وفي القراءة الأخرى المتواترة: أَنَسْجُدُ لِمَا يَأْمُرُنَا وهذه القراءة بعضهم وجهها وفسرها بأن المراد: أَنَسْجُدُ لِمَا يَأْمُرُنَا يعني: مَن عُرف بأنه الرحمن يعني: مسيلمة الكذاب وهو يأمرهم بعبادة غير الله - تبارك وتعالى -، قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ يعني: نحن لا نعرف إلا رحمن اليمامة، أَنَسْجُدُ لِمَا يَأْمُرُنَا ولكن هذا لا يخلو من بُعد - والله تعالى أعلم -، والأقرب أن يكون المعنى: قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا أي: محمد ﷺ، وبعضهم قال: أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا أي: الرحمن.

قوله: وَزَادَهُمْ نُفُورًا هنا الحافظ ابن كثير يقول: فأما المؤمنون ... إلى آخره، وَزَادَهُمْ نُفُورًا بعض أهل العلم يقول: زادهم أي: ذكر الرحمن نفوراً، استنكفوا واعترضوا، وأبوا من السجود له.

ألا ضربتْ تلك الفتاةُ هجينَها ألا قضَبَ الرحمنُ ربِّي يمينَها

هذا قول بعض الجاهليين، وكذلك قول سلامة بن جندل:

عَجِلتم علينا عَجلتيْنا عليكُمُ وما يشأ الرحمنُ يَعقدْ ويُطلقِ

هذا في تفسير ابن جرير، فالشاهد هنا: وَزَادَهُمْ نُفُورًا يعني: ذكْر الرحمن، ذكْر هذا الاسم أنهم أنكروه، وعارضوه، وبعضهم يقول: وَزَادَهُمْ نُفُورًا أي: الأمر بالسجود، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وزادهم الأمر بالسجود نفوراً، وهذا يوافق قول من قال كابن جرير - رحمه الله -: إن قوله: وَزَادَهُمْ نُفُورًا أي: عبادة الله ، الأمر بعبادته، والإخلاص له؛ وما أشبه ذلك، وهذا داخل ضمن ما سبق من قول من قال بأن الذي زادهم نفوراً هو الأمر بالسجود للرحمن، يعني: لا تسجدوا لغيره لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [سورة فصلت:37].

يكون ذلك على سبيل الإطلاق إن كان موجهاً للنبي ﷺ فهو خطاب متوجه لأمته: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا لا يكون المقصود معيناً، وإنما فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا يعني: ممن عرفه معرفة حقة بأسمائه، وصفاته؛ كما قال: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة الأنبياء:7] يعني: من لهم بصر، وعلم بالكتاب، وليس المقصود هنا من مثل هذا السياق أو هذا الخطاب أن النبي ﷺ يسأل أحداً من الناس عن ربه - تبارك وتعالى - ليتعرف على كماله، وأوصافه؛ ليس هذا المقصود، وإنما مثل هذا يرِد لبيان الكمال الذي لربما أنكره هؤلاء الكفار، أو حصل منهم ما يوجب التنقّص لله - تبارك وتعالى -، يقول: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا يعني: ليس توجيهاً أن النبي ﷺ يذهب، ويسأل أحداً من المعين، ليس هذا المقصود، باعتبار أن الخطاب هنا ليس للنبي ﷺ، أو إذا قلنا: خطاب النبي ﷺ متوجه إلى الأمة - المقصود خطاب الأمة - وأن النبي ﷺ أعرف الخلق يسأل مَن؟ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا أولى مَن يدخل في ذلك النبي ﷺ، فإنما يُعرف كمال الله مما جاء على لسانه ﷺ من الوحي الكتاب، والسنة.

  1. رواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، برقم (1784).