"قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [سورة الفرقان:63-67].
هذه صفات عباد الله المؤمنين: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا أي: بسكينة، ووقار من غير جَبرية، ولا استكبار".
يعني من غير تجبر.
هنا في صفات عباد الرحمن، عباد الرحمن أضافهم إليه إضافة تشريف الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا البدء بهذه القضية يدل على أن هذا الدين شامل لكل مناحي الحياة، المشية، فطريقة المشي ليس لها معنى، ولا محل في القوانين الوضعية الأرضية، بينما جاءت هذه الشريعة تنظم حياة الإنسان في كل شئونها حتى في طريقة مشيته، وذلك أن هذه الشريعة تحمل الناس على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات والأعمال، وما يحفظ لهم المروءات، ويجملهم بأحسن الأوصاف؛ ولهذا كانت جملة ما جاء به الرسول ﷺ منقسمة إلى ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات، فالتحسينيات هي التي تُحفظ بها المروءات، ويصون بها المرء وجهه ونفسه، ويبقى له ماء الحياة، فلا تذهب كرامته، وإنما يبقى المؤمن على أحسن الأوصاف، والأحوال، والأعمال وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ولهذا ذكر هذه القضية، ولاحظ أنّ البداية هي يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: "جمع بين هذا وهذا، المشية وإذا خاطبهم الجاهلون، قال: الزلة زلتان: زلة القدم، وزلة اللسان، زلة القدم إذا سقط الإنسان أظن تنكسر رجله أو نحو ذلك، لكن زلة اللسان ربما تذهب بدنياه، وبآخرته، فنبه على الأمرين، على هديهم في المشية، وعلى هديهم في المخاطبة، على الأدب، والسمت الحسن في مشيتهم، وعلى أدبهم في ما يتصل باللسان، يمشون على الأرض هوناً؛ قال: أي بسكينة، ووقار يعني: ليست بهوان، لا يمشون مشية ذليلة، وإنما مشية فيها سكينة، ووقار، والسكينة، والوقار، والسمت الحسن؛ كل ذلك يحصل باجتماع أمور في الإنسان، هي أمور ظاهرة تتصل بأمور باطنة تمدها كما يمد الماء الحياة في الشجر، يكون بسبب ذلك إشراق الوجه إذا أشرق القلب، وتظهر سيما الصلاح على وجه الإنسان، ويكون على أحسن الأحوال في حركاته، وسكناته، وهديه الظاهر في اللباس، والمشية، كل هذا يدخل في السمت الحسن، وجاء في حديث حسنه بعض أهل العلم يدل على أن السمت الحسن، والتؤدة؛ أنها جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة، هذه القضية من أمور الكمال، وهي من صفات النبوة بلا شك، يقول: الذين يمشون على الأرض هوناً يقول: من غير استكبار، ولا مرح، ولا أشر، ولا بطر، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى، وإنما يمشي مشية قوية، ثم أجاب عن سؤال مقدر إذا كانوا يمشون على الأرض هوناً، فكيف كان رسول الله ﷺ يمشي في مشية قوية كأنما ينحط من صَبَب - من مكان مرتفع -، وكان ينزل على قدمه كاملها يعني: ما يسحب رجله؟، هذا لا يتعارض مع كونه يمشي مشية فيها سكينة، ووقار، هذا الوصف ينطبق على رسول الله ﷺ: يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا، فليس معنى ذلك المشي بتماوت، وإنما يمشي مشية معتدلة، لا تخرجه عن وصف الوقار، والسكينة، والمشية تدل على صاحبها غالباً، المتكبر المتبختر يعرف ذلك من مشيته، والإنسان المخبّل في عقله يعرف ذلك من مشيته، ولو رأيته من بعيد وهو يمشي وقد أدار إليك ظهره تعرف أن هذا الذي يمشي غير سوي، يُعرف من مشيته، والإنسان الذي لربما يكون واثقاً من نفسه معتدل الأوصاف، والكمالات؛ يعرف ذلك غالباً من مشيته، والإنسان المرتبك يعرف ذلك من مشيته، والخائف يعرف من مشيته، والمستحي يعرف من مشيته قال: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء [سورة القصص:25] المشية تدل على صاحبها، وما يعرض له، وما يقوم به من أحوال، وأوصاف عارضة أو مستقرة، ولهذا يعرف من المشية غالباً؛ لأن بعض الناس عنده قدرة على التصنع، ومن ثَمّ فقد يُخفي بعض الأشياء، حتى في تعابير الوجه، وهذا علم يدرس، يدرسونه، ويتمرنون عليه، حتى في تعبيرات الوجه كيف تستطيع أن تضبط تعبيرات الوجه بحيث لا يبدو أي شيء مما في نفسك يعني: قد يكون الإنسان في غاية الخوف، ويستطيع أن يسيطر، ويبدو في غاية الثبات، وهكذا قد يكون هذا الإنسان في غاية الحياء ويبدو أنه في غاية الاعتدال مثلاً - والله المستعان -.
"وقوله تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا أي: إذا سَفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون، ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا، كما كان رسول الله ﷺ لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، وكما قال تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ.. [سورة القصص:55].
وروى الإمام أحمد عن النعمان بن مُقَرّن المُزَني قال: قال رسول الله ﷺ وسَبّ رجلٌ رجلاً عنده، قال: فجعل المسبوب يقول: عليك السلام، قال: فقال رسول الله ﷺ: أما إن ملكًا بينكما يذب عنك، كلما شتمك هذا قال له: بل أنت وأنت أحق به، وإذا قلت له: عليك السلام، قال: لا، بل عليك، وأنت أحق به[2] إسناده حسن، ولم يخرجوه".
قوله: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ويكفي هذا الحديث لكف النفوس عن مجاراة السفهاء خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا بعضهم يقول: بمعنى سلمنا عليك سلاماً، وبعضهم قال: هذا من المسالمة، والمقصود بذلك أنهم لا يجارونهم في ألفاظهم، وعباراتهم، وسبابهم، وشتائمهم ... وما إلى ذلك، فأنت إذا أردت أن تؤدب كل الناس بمختلف مشاربهم، وأخلاقهم، وخلفياتهم في التربية، وتوقف هذا عند حده، وتزجر هذا، وهذا لا بد أن يعرف قدره؛ فإنك لن تنتهي، ولن تصل إلى نتيجة إلا أنك تهبط إلى أحط الدركات؛ لأنك ستجد في المجتمعات عديم التربية، عديم الأخلاق، من لا يبالي بما يقول، وما يفعل، وهو على أتم الاستعداد أن يهبط في الإقذاع والشتائم إلى الهاوية، فيخطئ من يظن أنه يستطيع أن يؤدب هؤلاء، وأن يحملهم على ما يجمل، فلا يترك شارداً، ولا وارداً، ولا عارضاً؛ إلا اشتبك معه، وتشاجر معه؛ لأن هذا أخطأ، وهذا لم يتجمل، وهذا لم يحسن الرد، وما أشبه ذلك، "قالوا سلاماً" فإذا جاوبته بغير ذلك - بمثل ما صدر منه - فإنك تكون قد تساويت معه في المرتبة، ولو كان ذلك على سبيل المقاصة، وإنما يرفع الإنسان نفسه، ويصون عرضه، وكرامته، ويكفي هذا الحديث أن الملَك يقول له ما تقدم في الحديث، وابن القيم - رحمه الله تعالى - يقول: "نصَبَ "السلام" من قوله تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا، ورفعه في قوله حكاية عن مؤمني أهل الكتاب: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ فالجواب عنه: أن الله - سبحانه - مدح عباده الذين ذكرهم في هذه الآيات بأحسن أوصافهم، وأعمالهم فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً فسلاماً هنا صفة لمصدر محذوف، هو القول نفسه، أي: قالوا قولاً سلاماً، أي: سداداً، وصواباً، وسليماً من الفحش، والخنا، ليس مثل قول الجاهلين الذين يخاطبونهم بالجهل، فلو رفع السلام هنا لم يكن فيه المدح المذكور، بل كان يتضمن أنهم إذا خاطبهم الجاهلون سلموا عليهم"[3].
يقصد أنهم يقولون قولاً سالماً من العيب، يقول له: بارك الله فيك، أشكرك على هذا، لا يجاريه فيما يقول، هذا المعنى، وليس المقصود على هذا المعنى أنه يسلم عليه يقول له: سلام عليك.
وقال - رحمه الله -: "وليس هذا معنى الآية، ولا مدح فيه، وإنما المدح في الإخبار عنهم بأنهم لا يقابلون الجهل بجهل مثله، بل يقابلونه بالقول السلام، فهو من باب دفع السيئة بالتي هي أحسن التي لا يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم.
وتفسير السلف وألفاظهم صريحة بهذا المعنى، وتأمل كيف جمعت الآية وصفهم في حركتي الأرجل، والألسن"[4].
يعني هو يقول: لا مدح فيه أنهم يقولون: سلام عليكم، لكن لماذا لا مدح فيه؟ الآن هذا إنسان يصدر منه ما لا يليق، فقال له المقابل: سلام عليك، كما قال الله عن أهل الكتاب: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [سورة القصص:55]، سلام عليكم، هذا واضح وصريح في أنهم يقولون لهم: سلام عليكم، فتكون هذه تفسيراً لهذه، فإذا جاوبوهم بهذه المجاوبة وهو قولهم: سلام عليكم فهذا من الإحسان في الرد، يعني لا يصلني، من المعاني الداخلة تحت هذه اللفظة أو هذه الجملة حينما نقول: السلام عليكم معنى المسالمة، بمعنى أنه لا يصل إليك مني مكروه، ولهذا اختيرت في الجواب في هذا الموضع، وإذا كان كذلك فمعنى ذلك أنهم قالوا قولاً سالماً من العيب، يعني حينما يجيبون بهذا الجواب يكون ذلك سالماً من العيوب، أقصد من هذا أن مثل هذا الجواب غير مستبعد - والله تعالى أعلم - يعني لا يقال: إن هذا ليس هو المراد، أي يقولون: سلاماً، يحتمل أن يكون المراد هنا قولاً سالماً، ويدخل فيه هذه المجاوبة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ، إنسان بدأ ينفلت لسانه تقول: سلام عليك، وتمضي، ولا تقف؛ لأنك إذا وقفت هذه الكلمة قد تكون أشد وأعظم مما لو قابلته بالشتم، إذا كان يفهم؛ لأنه سيعرف أنها قيلت: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، فيستفزه ذلك.
وقال - رحمه الله -: "وتأمل كيف جمعت الآية وصفهم في حركتي الأرجل والألسن بأحسنها، وألطفها، وأحكمها، وأوقرها، فقال: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا أي: بسكينة، ووقار، والهَون بفتح الهاء من الشيء وهو مصدر هان هوناً أي سهل، ومنه قولهم: يمشي على هِينته، ولا أحسبها إلا مولدة، ومع هذا فهي قياس اللفظة فإنها على بناء الحالة، والهيئة؛ فهي فِعْلة من الهَون، وأصلها هِوْنة، فقلبت واوها ياء لانكسار ما قبلها، فاللفظة صحيحة المادة والتصريف، وأما الهُون بالضم فهو الهوان، فأعطوا حركة الضم القوية للمعنى الشديد وهو الهوان، وأعطوا حركة الفتح السهلة للمعنى السهل وهو الهون"[5].
فهذا مفيد فيما يتعلق بفقه اللغة العربية، ودلالة الألفاظ في تركيبها في حروفها، وشكلها على المعاني، وهذا باب دقيق في العلم، فإن الإنسان قد يفهم أحياناً الكلمة، ولم يمر به معناها، أو يفهم شيئاً من معناها، ولم يمر به قبل ذلك أخذاً من حروفها، وهذا كثير.
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة والنهي عن إتيانها سعيا، برقم (602).
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (23745)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد منقطع، فإن أبا خالد الوالبي روايته عن النعمان بن مُقَرِّن مرسلة، ومع ذلك فقد حسَّن هذا الإسناد الحافظ ابن كثير في "تفسيره"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (2923).
- بدائع الفوائد، لابن القيم (2/386).
- المصدر السابق (2/386).
- بدائع الفوائد، لابن القيم (2/387).