الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا۟ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا۟ عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وهذه أيضاً من صفات المؤمنين الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [سورة الأنفال:2] بخلاف الكافر، فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه، ولا يتغير عما كان عليه، بل يبقى مستمراً على كفره، وطغيانه، وجهله، وضلاله كما قال تعالى: وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:124-125].

فقوله: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا أي: بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه، فيستمر على حاله كأن لم يسمعها، أصم، أعمى".

قوله: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا الخرور معروف، تقول: خر ساجداً كما في قوله - تبارك وتعالى -: خَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [سورة ص:24] راكعاً بمعنى ساجداً، تقول: خر لليدين، وللفم؛ يعني خر على وجهه، فخر على يديه، وفمه؛ سقط قتيلاً في أرض المعركة، خر صريعاً بمعنى وقع، وسقط، فهنا لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا السياق يدل على أن المراد أن هذه الآيات تؤثر فيهم، ولا يقابلونها بالإعراض، والغفلة، وإنما تقع في نفوسهم موقعاً، وقد لا يدل بالضرورة على أن هؤلاء إذا سمعوا، أو ذُكروا بالآيات؛ أنهم يخرون إلى الأرض يقعون للسجود مثلاً، لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا لأن ذلك لا يُطلب بكل حال، من سمع الآيات إذا مر بآية سجد فهذا لا يجب، لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا بمعنى: لا يقع، لا تكون حالهم كذلك، يقابلونها بنوع إعراض، وتجاهل، أو غفلة؛ هذا الذي يفهم من السياق - والله تعالى أعلم - لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا.

والله - تبارك وتعالى - قال: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [سورة مريم:58]، وهنا قال: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا لا يسمعون، وَعُمْيَانًا لا يبصرون، فهنا خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، وعمر لما سجد قال: هذا السجود فأين البكاء؟ فهناك إثبات السجود، والبكاء، والتأثر، وهنا: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا لم يخروا عليها مفهوم المخالفة، لو أراد أن يتعنت بشق الشعرة والشعيرة في الألفاظ قد يقول: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا أنهم يخرون لكن بغير هذه الصورة لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا مفهوم المخالفة خروا من غير صمم، ولا عمى، يعني: هل هؤلاء الذين يخالفون صفة عباد الرحمن مثلاً يخرون لكن صماً، وعمياناً، هل هذا هو المراد؟ أن مَن جانبَ صفة عباد الرحمن من الكفار، والمنافقين؛ إذا ذكروا بآيات ربهم خروا صماً، وعمياناً، هل هذا المراد؟ لا، ولا يقع منهم خرور أصلاً؛ ولهذا يفهم منه - والله تعالى أعلم - أن المقصود أنهم لا يقابلونها بالغفلة، لا يقابلون ذلك بالغفلة.

بعض الألفاظ تستعمل في مثل هذه المعاني، والعرب يتوسعون في الكلام يعني مثلاً الله - تبارك وتعالى - يقول: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء:29] تقعد، القعود خلاف القيام، فهل المقصود القعود حقيقة، أو المقصود أنك تبقى في حال لا تستطيع فيها التصرف في شئونك، ومصالحك، منقطع، محصور من الانقطاع؟ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ [سورة الإسراء:22] فتقعد، فالقعود هل المراد به خلاف القيام؟، لا زال الناس يستعملون بعض هذه الألفاظ إلى اليوم، فعندما يتورط الإنسان بشيء فعله يقولون: قعد به، فلان قعد بهذه المشكلة، فليس المراد أنه جلس كذا في القيام، وهنا "تخر" "يخروا" تستعمل فيما هو أوسع من الفعل المعروف قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "قوله تعالى ذكره: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ... الآية، قال مقاتل: "إذا وُعظوا بالقرآن لم يقعوا عليه صُماً لم يسمعوه، وعمياناً لم يبصروه، ولكنهم سمعوا، وأبصروا، وأيقنوا به"، وقال ابن عباس: "لم يكونوا عليه صماً، وعمياناً، بل كانوا خائفين، خاشعين"، وقال الكلبي: "يخرون عليها سمعاً، وبصراً، وقال الفراء: وإذا تلي عليهم القرآن لم يقعدوا على حالهم الأولى كأنهم لم يسمعوه، فذلك الخرور"[1].

لم يقعدوا على حالهم الأولى كأنهم لم يسمعوا، المعنى: أنهم تأثروا به.

وقال: "وسمعت العرب تقول: قعد يشتمني، كقولك: قام يشتمني، وأقبل يشتمني، والمعنى على ما ذكر: لم يصيروا عندها صماً، وعمياناً، وقال الزجاج: المعنى: إذا تليت عليهم خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا سامعين، مبصرين؛ كما أمروا به"[2].

فهنا أخذ ظاهر اللفظ خر: السجود.

وقال - رحمه الله -: "وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي: لم يتغافلوا عَنْهَا كَأَنَّهُمْ صم لم يسمعوها، وَعمي لم يروها".

قلت: هَاهُنَا أَمْرَانِ: ذكر الخرور، وتسليط النَّفْي عَلَيْهِ، وَهل هُوَ خرور الْقلب، أَو خرور الْبدن للسُّجُود؟ وَهل لِمَعْنى لم يكن خرورهم عَن صمم، وَعَمه؛ فَلهم عَلَيْهَا خروراً بِالْقَلْبِ خضوعاً، أَو بِالْبدنِ سجوداً، أَو لَيْسَ هُنَاكَ خرور، وَعبر بِهِ عَن الْقعُود؟"[3].

  1. الفوائد لابن القيم (ص:80).
  2. المصدر السابق.
  3. المصدر السابق (ص:80-81)