الخميس 22 / ذو الحجة / 1446 - 19 / يونيو 2025
أَوْ يُلْقَىٰٓ إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُۥ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ۚ وَقَالَ ٱلظَّٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قال تعالى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ۝ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا ۝ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ۝ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ۝ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ۝ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ۝ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ۝ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [سورة الفرقان:7-14].

يخبر تعالى عن تعنت الكفار، وعنادهم، وتكذيبهم للحق بلا حجة، ولا دليل منهم، وإنما تعللوا بقولهم: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ يعنون: كما نأكله، ويحتاج إليه كما نحتاج إليه وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ أي: يتردد فيها وإليها طلباً للتكسب، والتجارة لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا يقولون: هلا أنزل إليه ملك من عند الله فيكون له شاهداً على صِدْق ما يدَّعيه! وهذا كما قال فرعون: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [سورة الزخرف:53]، وكذلك قال هؤلاء على السواء - تشابهت قلوبهم -؛ ولهذا قال: أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أي: علم كنز ينفق منه، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا أي: تسير معه حيث سار، وهذا كله سهل يسير على الله، ولكن له الحكمة في ترك ذلك، وله الحجة البالغة، وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا".

قوله - تبارك وتعالى -: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ يعني: هذه الأشياء التي ذكروها يريدون أن يقولوا: لا فرق بيننا وبينه، فهم افترضوا أن النبي لا بد أن يكون من غير جنس البشر، يكون ملَكاً، فإذا ادعى أحد من البشر أنه نبي فلا بد أن يأتي بالملائكة، وهذا ذكره الله - تبارك وتعالى - عنهم في مواضع من القرآن، وهو في هذه السورة في أكثر من موضع كما سيأتي، فتارة يريدون أن يقترن به ملَك يسدده، ويعينه، ويقويه، وكانوا أحياناً يطلبون رؤية الملائكة كما سيأتي؛ ولهذا قال الله : يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ [سورة الفرقان:22]، وأحياناً يطلبون أن ينزل ملَك فيوحي إليهم كما أوحى إليه كما هو ظاهر بعض الآيات كما سيأتي.

فالشاهد: أن هذه المطالب التي يذكرها الكفار: أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ... إلى آخره، كل ذلك من قبيل التعنت؛ ولهذا كان الجواب عن هذا: سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:93] فجميع هذه المقترحات التي كانوا يقترحونها كانوا يذكرون ذلك على سبيل المكابرة، والتكذيب، والتعنت؛ ولهذا ما أجابهم الله - تبارك وتعالى - إلى ذلك؛ لأنه لو جاءت هذه الآيات لكذبوا بها؛ كما أخبر الله - تبارك وتعالى - في مواضع من كتابه كقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ [سورة الإسراء:59]، والمقصود بالآيات: الآيات التي اقترحها الكفار، وإلا فالأنبياء جاءوا بالآيات سواء ما كان منها من قبيل خوارق العادات وهي التي اقترحوها، أو غير ذلك من الآيات التي هي من دلائل صدقهم، فإن دلائل النبوة التي تسمى في القرآن بالآيات منها ما هو خارق للعادة وهو ما سماه المتأخرون بالمعجزات، مثل: هذا القرآن، وعصا موسى - عليه الصلاة والسلام -، وانفلاق البحر ... إلى آخره، ومنها ما لم يكن كذلك أي ليست بخوارق العادات كالصدق في الحديث، والأمانة، وسُموّ ما يدعو إليه، والتاريخ المشرق، والوجه المشرق ... إلى غير ذلك مما يعرف به صدق الإنسان؛ ولهذا أسلم من أسلم كعبد الله بن سلام بعد أن تحقق من أمور لم تكن من خوارق العادات، وبمجرد النظر إلى وجهه عرف أنه ليس بوجه كذاب، هرقل ما سأل عن أي معجزة سأل عن أشياء عرف بها أنه نبي.

فالحاصل: أن قوله هنا عنهم: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ بمعنى: أنه بشر مفتقر إلى الطعام كما نفتقر إليه، ثم هو بعد ذلك أيضاً يحتاج بعده إلى ما يحتاج إليه البشر، ومنزلة الرسول في نظرهم ودعواهم أنه فوق ذلك، والله - تبارك وتعالى - في رده على النصارى الذين ادعوا إلهية عيسى - عليه الصلاة والسلام - كان في ضمن رده عليهم: أن عيسى - عليه الصلاة والسلام - وأمه كانا يأكلان الطعام؛ فهذا لا يصلح للإله، يأكل الطعام مفتقر إليه لا يقوم بذاته، كما أنه يحتاج إلى الخلاء، ومثل هذا لا يصلح للألوهية، هذا الكلام في الإله، أما الأنبياء فهم بشر، ولهذا كان الرد يقول: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:93] يقول: أنا لم أخرج من وصف البشرية، وإنما أنا رسول، فكانت تأتي الردود مقررة لهذا المعنى.

فهذه الآية هنا في الفرقان في هذا الموضع: لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا هذه صريحة في أن اقتراح نزول الملك من أجل الإنذار معه، ولكن ذلك ليس في كل المواضع، أحياناً لمجرد الرؤية والمشاهدة في الإثبات، نريد أن نرى الملائكة، وفي بعضها قد يفهم منه كما سبق أنه من أجل أن يحصل لهم الوحي كما حصل له: لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [سورة الفرقان:21].

في قوله هنا: أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا بمعنى أنه يُكفَى، في القراءة الأخرى المتواترة قراءة حمزة والكسائي: أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ نَأْكُلُ مِنْهَا، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والقراءتان إذا كان لكل قراءة معنى فهما بمنزلة الآيتين، فهم يريدون أن تكون له جنة يأكل منها فيُكفَى فلا يحتاج إلى البيع، والشراء، والتكسب، وكذلك يريدون أن يأكلوا من هذه الجنة معه برهاناً على صدقه.