الجمعة 01 / محرّم / 1447 - 27 / يونيو 2025
قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ۝ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ۝ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ۝ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [سورة النمل:27-31].

يخبر تعالى عن قِيل سليمان للهدهد حين أخبره عن أهل سبأ، وملكتهم: قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ أي: أصدقت في إخبارك هذا، أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ في مقالتك، فتتخلص من الوعيد الذي أوعدتك؟

اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ وذلك أن سليمان  كتب كتابًا إلى بلقيس، وقومها، وأعطاه لذلك الهدهد، فحمله؛ قيل: في جناحه كما هي عادة الطير، وقيل: بمنقاره، وذهب إلى بلادهم، فجاء إلى قصر بلقيس؛ إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها، فألقاه إليها من كُوّة هنالك بين يديها، ثم تولى ناحيةً أدبًا، ورياسة، فتحيرت مما رأت، وهالها ذلك، ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته، ففتحت ختمه، وقرأته، فإذا فيه: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فجمعت عند ذلك أمراءها، ووزراءها، وكبراء دولتها، ومملكتها، ثم قالت لهم: يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ تعني بكرمه: ما رأته من عجيب أمره كون طائر أتى به فألقاه إليها، ثم تولى عنها أدبًا، وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك، ولا سبيل لهم إلى ذلك، ثم قرأته عليهم.

إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فعرفوا أنه من نبي الله سليمان، وأنه لا قبَل لهم به، وهذا الكتاب في غاية البلاغة، والوجازة، والفصاحة، فإنه حَصّل المعنى بأيسر عبارة، وأحسنها.

وقوله: أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ: يقول قتادة: لا تَجبَّروا عليّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "لا تمتنعوا، ولا تتكبروا عليّ"".

قوله - تبارك وتعالى - عن قول سليمان - عليه الصلاة والسلام -: اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، بعضهم يقول: هذا من المقدم الذي حقه التأخير، يعني يكون هكذا "اذهب بكتابي هذا ألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تولّ عنهم"، وهذا باعتبار أن التولي عنهم يعني الرجوع إلى سليمان - عليه الصلاة والسلام - وهو لا يرجع إليه قبل أن يعرف خبرهم ماذا كان مردود هؤلاء على هذا الخطاب، والكلام إذا دار بين الترتيب، أو التقديم، أو التأخير؛ فالمقدم هو الترتيب، ويبقى كما ذكر الله ، ولا يقال: هذا من المؤخر الذي حقه التقديم، ويكون المعنى ظاهراً، يعني هكذا "اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، ثم تول عنهم" يعني تأخر قليلاً حتى يحصل بينهم مراجعة، وتكون في موضع تستمع فيه ما يجري من المحاورة، والجواب؛ حتى ترجع بالخبر ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ليس معناه الرجوع إلى سليمان فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ فإذا حصل منه هذا: سمع كلامهم، ثم بعد ذلك جاء بالخبر إلى سليمان - عليه الصلاة والسلام - يكون المعنى على هذا الظاهر، وهذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم -، وهذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وهنا العلماء - رحمهم الله - يختلفون في هذا الذي حصل؛ يعني هذا الكتاب الذي كتبه سليمان - عليه الصلاة والسلام - هل كان قبل أن يأتيه عرشها، أو كان بعد مجيء العرش؟، والسبب الذي أوجب هذا الاختلاف هو أن بعضهم نظر إلى معنى، وهو أنهم قالوا: إن هذا الهدهد جاء بهذا الخبر وسليمان - عليه الصلاة والسلام - قال: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ فقالوا: إذا كان الأمر كذلك، وهو لم يتحقق من صدق الهدهد، ولا يدري هل توجد أمة بهذه المثابة فعلاً يعبدون الشمس، وعندهم ملكة إلى آخره، فكيف يكتب خطاباً ويوجهه إلى قوم لا يدري أنهم موجودون!، كيف يكتب ملك خطاباً، ولا يدري هذا الخطاب يصل فعلاً إلى قوم يعني في هذا الوجود، أو لا وجود لهم؟، والخبر أصلاً مختلق، وإنما تحقق بطريقته فسأل مَن عنده أو جنوده أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [سورة النمل:38] لما رأى العرش عرف حقيقة ما قاله الهدهد؛ هكذا قالوا، فقالوا: إن هذا الكتاب حصل بعد مجيء العرش، أرسل لهم خطاباً بعد ذلك، وقال آخرون: بل هذا كان حينما جاء الهدهد بالخبر، وإلا فإن مثل هذا يرِدُ على قوله: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا فهو يتكلم على شيء موجود، وهذا خرج مخرج التحقق، واليقين، والتيقن بوجود هؤلاء القوم أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، ولهذا فإن الأقرب - والله تعالى أعلم - أن هذا الخطاب أرسل بعدما جاء الهدهد، فأرسل إليهم هذا الخطاب ليتحقق، أرسل إليهم هذا الخطاب، ثم قال للهدهد: انظر الجواب، وأتني به، ولا حاجة أن يقال: هذا بعد أن جاءوا بعرشها - والله تعالى أعلم -.

ثم قولها هنا: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ والملأ هم أشراف قومها، وأهل الرأي أهل الوجاهة يتمالئون على الأمر، فهم الذين يبرمونه، أهل الرأي والنظر قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ وصفته أنه كريم باعتبار المصدر، فهو جاءها من سليمان - عليه الصلاة والسلام - ملك، ونبي؛ فصار الخطاب بهذا الاعتبار متصفاً بهذه الصفة أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ، وبعضهم يقول: إنها قالت: إنه كريم؛ لأنه مختوم على عادة الملوك بختم الكتب، وبعضهم يقول: إنه كريم باعتبار مضمونه، نظرت في مضمونه فوجدته ابتدأ بالبسملة في غاية الوجازة، والفصاحة، والحافظ ابن كثير هنا يشير إلى معنى وهو الطريقة التي جاء بها الخطاب - هدهد وتنحّى -، فغاية ما يستطيعه الملوك هو أن يرسلوا عن طريق الحمام الزاجل الرسالة إلى المكان المعد لهذا أي مكان خاص؛ برج للحمام يوضع في هذا البلد، وبرج يوضع في ذلك البلد، فتطير تلقائياً حتى تدخل في هذا البرج، ثم يأخذون الرسالة منها، لكن يأتي هدهد، ويُلقي عليها، ثم يتنحى قليلاً، وينتظر؛ هذا لا يعهد، وليس فيه قدرة الملوك، هذا الذي أشار إليه ابن كثير - رحمه الله -.