الأحد 11 / ذو الحجة / 1446 - 08 / يونيو 2025
وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌۢ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي: مَنوا إليها بعَدَدهم، وعُددهم، وقوتهم، ثم فوضوا إليها بعد ذلك الأمر فقالوا: وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ أي: نحن ليس لنا عاقة، ولا بنا بأس، إن شئت أن تقصديه وتحاربيه فما لنا عاقة عنه، وبعد هذا فالأمر إليك، مري فينا برأيك نمتثله، ونطيعه.

قال ابن عباس: قالت بلقيس: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً قال الرب : وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ".

يقول: "قال الرب : وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ" ليست من جملة كلامها، وإنما هذا الذي يسمونه الموصول لفظاً، المفصول معنى يعني أن قوله: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ من كلام الله تصديقاً لقولها، وتقريراً له، ليس من بقية كلامها أنها قالت: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ مثلما جاء في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ لما قالوا قال إبراهيم ﷺ: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:81]، قال الله: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ [سورة الأنعام:82] فهذا يحتمل أن يكون من كلام إبراهيم ﷺ تكملة له، ويحتمل أن يكون من كلام الله الفصل بينهم، وذكرنا أمثلة لهذا أيضاً في قصة يوسف ﷺ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52] هل هو من كلام يوسف ﷺ، أو من كلام المرأة؟، وأمثلة هذا كثيرة حتى في هذه السورة له أمثلة متعددة، فتارة يكون في نفس الآية جملة منها، وأحياناً يكون في آية بعدها مستقلة، فهذه المرأة استشارت هؤلاء في هذا الأمر الذي يترتب عليه المصير لها، ولقومها، وما اغترت أيضاً بقولهم: نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ، وتفويض الأمر لها تفويضاً مطلقاً على ما يكون من طبيعة البشر من النقص لاسيما المرأة، ومع ذلك كانت بهذا العقل، والرجاحة، وقد ذكرتُ في بعض المناسبات ما جرى من غزو التتار، وما حصل بسبب ذلك من الفساد العظيم، والدمار للممالك الإسلامية من بخارى، وما في تلك النواحي إلى بلاد الشام، كل هذا وذكرتُ حينها أصل ذلك ومنشأه من أن تيمور كان قد أرسل وفداً من أجل أن يشتروا له كسوة أو نحو ذلك بأموال عظيمة جداً من بلاد المسلمين، وأن الأمير في تلك الناحية كتب إلى الملك الذي يتبع له بما رأى، وكتب له بالرأي وهو أن يقتلهم، وأن يأخذ ما معهم من أموال، فحصل هذا، وقتلهم، وأخذ الأموال، فغضب تيمور، وأرسل له يتوعده، ويتهدده، فكان التتر يتقاتلون مع قوم آخرين من الكفار في المشرق، فاستشار هذا الملكُ وكان له ولد له رأي، وسأل عن طاعة التتار لملكهم؛ فأُخبر أنهم يطيعونه، فأشار على أبيه أن يُسلّم لهم رجلاً واحداً وهو ذاك الأمير الذي قتل هذا الوفد، ويَسْلم المسلمون بعد ذلك، وأشار عليه آخرون بأن يغزوهم، وأن يرد الصاع صاعين، فعزم على هذا، وغزاهم، وكانوا قد شغلوا بحرب أولئك، فأخذ ذراريهم، ومن أموالهم، فرجعوا إليه موتورين لم يجدوا أولادهم، فجاءوا، وعاثوا في الأرض فساداً، ابتدءوا ببخارى وفعلوا الأفاعيل في وصفٍ يطول ذكره لأمور جرت هناك، أحرقوا البلد، وافتضوا الأبكار، وفجروا بالأولاد، والنساء، وقتلوا الرجال في الجوامع في كل مكان، وهكذا فعلوا حتى في بلاد الشام؛ أفعال شنيعة، والسبب هذا التصرف الذي لم يسدد، ولم يوفق، وجر على المسلمين مثل هذه الويلات - والله المستعان -.

"ثم عدلتْ إلى المهادنة، والمصالحة، والمسالمة، والمخادعة، والمصانعة فقالت: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أي: سأبعث إليه بهدية تليق به، وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك، فلعله يقبل ذلك، ويكف عنا، أو يضرب علينا خَرَاجاً نحمله إليه في كل عام، ونلتزم له بذلك، ويترك قتالنا، ومحاربتنا، قال قتادة: "رحمها الله، ورضي عنها ما كان أعقلها في إسلامها، وفي شركها!! علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس"، وقال ابن عباس وغير واحد: "قالت لقومها: إن قَبِلَ الهدية فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه"".

قد يكون هذا إذا كان لها بصر ومعرفة بهذه الأمور، وأن سليمان - عليه الصلاة والسلام - كان لا يقبل، لكن كان المعروف أن النبي ﷺ يقبل الهدية، ويرد الصدقة، فهنا هل هذا كان خاصاً بسليمان وهي عرفت ذلك، أو سألت وعرفت؟، ظواهر الآيات تدل على أن سليمان - عليه الصلاة والسلام - مع ما عنده من الإمكانات، والقُدر، وما سُخر له من الريح، والجن، والإنس لم يكن على دراية من وجودها أصلاً، فضلاً عن حالها، فكيف عرفت عن سليمان - عليه الصلاة والسلام -، وأنه لا يقبل الهدية؟، أو إن كان نبياً - إذا كانت تقصد جنس الأنبياء - فالأنبياء يقبلون الهدية، لكن لربما تكون قصدت شيئاً آخر لا يتصل بالحِل، والحرمة؛ هم من قوم يعبدون الشمس، وإنما نظرت لمعنى آخر وهو أن سليمان - عليه الصلاة والسلام - إن قبل الهدية فكف عن جهادهم معنى ذلك أنه طالب دنيا أنه ملك من الملوك، تنفع معه المصانعة، ويرضيه العطاء، والمال، ويكفه عن أهدافه، ومقاصده، وإن كان نبياً فهو لا يرضى غير ما دعاهم إليه وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ كأنها تقول: أوَ غير ذلك؟ عمدت إلى طريقة كما يقال الآن: دبلوماسية، نعطيه هدية، فننظر كيف يكون؟ فإن قبل هذه الهدية، وصارت بيننا وبينه علاقة، أي تواصل، واحترام؛ فبها ونعمت، هل نستطيع أن نكفه عن إرادته، ومطلبه هذا الذي تضمنته هذه الرسالة أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ هذه الجملة هي الرسالة فقط، هذا الهدف الآن؛ التحول من الدين أصعب ما يكون، أصعب الأشياء، الناس يذبون عن دينهم بنفوسهم، يفتدونه بنفوسهم، ويموتون دونه، وهو يقول: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فمعنى ذلك الخضوع له، وأن يكونوا تحت طاعته؛ فيكون هذا فيه ذهاب دولتهم، والتحول عن الدين، فهي أرادت أمراً دون ذلك، فهي تعطيه بعض الدنيا؛ ليبقى لها ملكها، ويبقى لها دينها؛ من هذا الوجه، ربما يكون لأن الأنبياء يقبلون الهدية، يقبلون الهدية لكنها بهذه المثابة أشبه ما تكون بالرشوة، إذا نظرت إليها بهذا الاعتبار كان الكلام لا إشكال فيه - والله أعلم -.