الأحد 11 / ذو الحجة / 1446 - 08 / يونيو 2025
قَالَ ٱلَّذِى عِندَهُۥ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِىٓ ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ قال مجاهد: أي مارد من الجن، وقال أبو صالح: "وكان كأنه جبل"".

يبقى أن هذا لا دليل عليه - كأنه جبل -، لكن العفريت هو المارد وقد يقال ذلك أيضا للإنس - عفريت - لمن كان له من القُدر والإمكانات الهائلة غير المعهودة فإنه يقال فيه ذلك قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ ولهذا ميَّز هنا قال من الجن، فهو وإن كان في الغالب يقال للجن لكنه أيضاً قد يطلق بإطلاق صحيح عند العرب على المردة من الإنس، أو على من كان لديه من القوى، والقُدر، والإمكانات الهائلة غير المعهودة.

"أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ قال ابن عباس - ا -: "يعني: قبل أن تقوم من مجلسك"، وقال السدي وغيره: "كان يجلس للناس للقضاء، والحكومات، وللطعام من أول النهار إلى أن تَزول الشمس، وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قال ابن عباس: "أي قوي على حمله، أمين على ما فيه من الجوهر"، فقال سليمان : أريد أعجل من ذلك، ومن هاهنا يظهر أن النبي سليمان أراد بإحضار هذا السرير إظهار عظمة ما وهبه الله له من الملك، وسَخَّر له من الجنود؛ الذي لم يُعطَه أحد قبله، ولا يكون لأحد من بعده، وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس، وقومها؛ لأن هذا خارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يَقْدموا عليه، هذا وقد حجبته بالأغلاق، والأقفال، والحفظة، فلما قال سليمان: أريد أعجل من ذلك قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ قال ابن عباس: "وهو آصف كاتب سليمان"، وكذا رَوَى محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان: "أنه آصف بن برخياء، وكان صدّيقاً يعلم الاسم الأعظم"، وقال قتادة: "كان مؤمناً من الإنس، واسمه آصف".

هذا الذي عليه أكثر المفسرين أنه من الإنس، وأنه يعلم الاسم الأعظم، وأنه كاتب سليمان، وإن اختلفوا في اسمه فهذا لا يهم هذا الذي يسمونه بالمبهمات في القرآن، ومثل هذا لا فائدة تذكر من تتبعه، والاشتغال به، لكن ذاك من الجن، وهذا من الإنس، ذاك استطاع أو يستطيع أن يأتي به في تلك المدة؛ لأنه من المردة، وأما هذا فإنه استطاع أو يستطيع أن يأتي به في مدة دونها من جهة العلم قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ: قيل معرفة الاسم الأعظم هذا ذكره كثير من المفسرين والسلف فمن بعدهم والعلم عند الله - تبارك وتعالى -، لكن ظاهره قد يفهم منه أن هذا من الإنس قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ، وبعضهم يقول: هو سليمان نفسه - عليه الصلاة والسلام -، لكن ظاهر السياق لا يدل على هذا، وكون سليمان - عليه الصلاة والسلام - يقول له المارد: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ فما يرضى بهذا يدل على أنه ما قصد مجرد الإحضار؛ لأن هذا يحصل بقول الأول، وإنما أراد أمراً فوق ذلك وهو ما أشار إليه ابن كثير - رحمه الله -: إظهار عظمة ملكه، وما أعطاه الله من القُدر، والإمكانات.

"وقوله: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ أي: ارفع بصرك، وانظر مُدّ بصرك مما تقدر عليه؛ فإنك لا يكل بصرك إلا وهو حاضر عندك".

هنا قال: "ارفع بصرك، وانظر مد بصرك مما تقدر عليه، إنه لا يكل إلا وهو حاضر عندك" وهذا الذي قاله ابن كثير قاله أيضاً ابن جرير، ولعله أقرب الأقوال - والله تعالى أعلم -، والمعنى أنه يمتد بصره ينظر إلى الشيء فقبل أن يغمض، أو قبل أن يرتد إليه طرفه بالحركة الطبيعية؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يديم النظر إلى شيء دون تحريك جفنه من غير إرادة، فالمقصود أنه يمتد طرْفه إلى الشيء ينظر إليه، فقبل أن يتحرك جفنه يجد هذا العرش أمامه قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، وبعضهم يقول: قبل أن يصل إلى مداه قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ بمعنى يمتد النظر قبل أن يصل إلى آخر ما يمكن أن يراه الإنسان، فإذا وصل إلى مداه يكون بعد ذلك قد ارتد إلى صاحبه، وليس معناه أنه يحرك جفنه أو نحو ذلك، وإنما المقصود أنه ليس وراء ذلك غاية يصل إليها يعني هذا غايته وانتهى، يعني غاية ما يمكن للبصر العادي أي العين المجردة أن تصل إليه، مدى البصر يعني للإنسان العادي، وبعضهم يحمله على معنى آخر يقول: قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ يعني من أرسلته في حاجة قبل أن يرجع إليك يكون هذا، وهذا غير صحيح، فإن رجوعه قد يكون أطول مما قال الأول قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ فهو بحسب ما يحصل من هذا الذي أرسله من جهة البطء، والسرعة، وكذلك بُعد المكان، وقُرب المكان، فهذا أبعد هذه الأقوال، قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ تقول: جئت من طرف فلان، قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ من أرسلته قبل أن يرجع إليك، هذا بعيد، والأقرب - والله أعلم - هو قبل أن يحصل للإنسان، قبل أن يغمض عينيه يكون ذلك حاضراً بين يديه، وهذا هو اختيار ابن جرير.

"ثم قام فتوضأ، ودعا الله - تبارك وتعالى -، قال مجاهد: "قال: يا ذا الجلال والإكرام"".

هذا باعتباره الاسم الأعظم، ومعلوم أن في الاسم الأعظم خلافاً مشهوراً، وقوله: قام وتوضأ، وقال: "يا ذا الجلال والإكرام"؛ لا دليل عليه.

"فلما عاين سليمان ومَلَؤه ذلك، ورآه مستقرًا عنده قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي أي: هذا من نعم الله عليّ لِيَبْلُوَنِي أي: ليختبرني، أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، كقوله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [سورة فصلت:46]، وكقوله وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [سورة الروم:44].

وقوله: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ أي: هو غني عن العباد وعبادتهم، كَرِيمٌ أي: كريم في نفسه، وإن لم يعبده أحد، فإن عظمته ليست مفتقرة إلى أحد، وهذا كما قال موسى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة إبراهيم:8].

وفي صحيح مسلم: يقول الله - تعالى -: يا عبادي لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم؛ كانوا على أتقى قلب رجل منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي! لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم؛ كانوا على أفجر قلب رجل منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه[1]".

المقصود أن سليمان - عليه الصلاة والسلام - لما حصل له هذا الإفضال ما زاده إلا عبودية لله وشكراً، بخلاف كثير من الناس فإنهم يزدادون بطراً وتعاظماً.

  1. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).