الأربعاء 25 / صفر / 1447 - 20 / أغسطس 2025
قَالَ يَٰقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ ۖ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي: لِمَ تدعون بحضور العذاب، ولا تطلبون من الله رحمته؟ ولهذا قال: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۝ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أي: ما رأينا على وجهك ووجوه مَنْ اتبعك خيراً، وذلك أنهم - لشقائهم - كان لا يصيب أحدًا منهم سوءٌ إلا قال: هذا من قِبَل صالح، وأصحابه.

قال مجاهد: تشاءموا بهم، وهذا كما قال تعالى إخبارًا عن قوم فرعون: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَه... الآية [سورة الأعراف:131]، وقال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [سورة النساء:78] أي: بقضاء الله، وقدره، وقال تعالى مخبرًا عن أهل القرية إذ جاءها المرسلون: قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ [سورة يس:18-19]، وقال هؤلاء: اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي: الله يجازيكم على ذلك بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ قال قتادة: تُبتلون بالطاعة، والمعصية، والظاهر أن المراد بقوله: تُفْتَنُونَ أي: تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال".

قوله - تبارك وتعالى - عنهم: قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ السيئة هنا يقول: أي لِمَ تدعون بحضور العذاب، ولا تطلبون من الله رحمته، هذا هو الأقرب - والله أعلم -، وهو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، ويدل عليه قوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ [سورة الرعد:6] يعني العقوبات المستأصلة، فهذه هي السيئة وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ [سورة الحج:47] فهذا هو استعجالهم، وبعضهم يقول غير هذا، ولكن الذي يدل عليه القرآن هو هذا القول، وهنا قال: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ يعني معناه أنهم تشاءموا به كما قص الله - تبارك وتعالى - عن الأقوام السابقين، وكذلك عن المكذبين للنبي ﷺ، وعن الكافرين؛ بأنهم كانوا أيضاً يتشاءمون به، قال: قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ يقول: أي الله يجازيكم على ذلك، وابن جرير - رحمه الله - يقول: "أي ما يقع لكم علمه عند الله"، يقول: قالوا: نحن تطيرنا بك ما يأتينا من شر، أو قحط أو نحو ذلك؛ هو من قِبلك، ومن دعوتك، ومن دينك، فيقول لهم: ما يقع لكم من خير، وشر عِندَ اللَّهِ أي علمه عند الله - تبارك وتعالى -، ولا شك أن ما يقع للإنسان من خير وشر فهو من الله، ولكن الشر لا ينسب إلى الله - تبارك وتعالى - تأدباً معه، والشر ليس إليك[1]، وإلا فالله هو خالق الخير، وهو خالق الشر بلا شك، فلا يوجد في الخلق شيء إلا والله - تبارك وتعالى - هو الذي خلقه، ليس في الكون خالق غير الله ، ولكن تأدباً معه لا ينسب إليه الشر استقلالاً، ولهذا تأدب النبي ﷺ في قوله: والشر ليس إليك، ولهذا في مقام الرد، في مقام بيان هذا الأصل قال: قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ [سورة النساء:78] حينما رد عليهم لما تطيروا بالنبي ﷺ قال: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ، فجاء الرد قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ يعني الحسنة، والسيئة، ولما أراد أن يبين منشأ ذلك، ومرجعه، وسببه قال: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] فهذا في مقام التقرير، والتبيين، قال لهم: إن ما يصيبكم من الشر كما قال الله : وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [سورة الشورى:30]، فالباء السببية تعني بسبب ذنوبكم، لكن في مقام الرد قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ أي بتقديره وقضائه ، فنفرق بين المقامين، فليس ذلك من التعارض، أو التناقض هي كلها من عند الله خلقاً، وتقديراً، وقضاء، وقدراً، وتُنسب وقال: وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ من جهة التسبب.

قال: بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ قال قتادة: "تبتلون بالطاعة، والمعصية" يعني تختبرون، قال: والظاهر أن المراد بقوله: تُفْتَنُونَ أي تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال، والفتنة تأتي لمعانٍ في القرآن من أشهرها الابتلاء، والاختبار، بل أنتم قوم تمتحنون، وتختبرون، ولما كانت تأتي بمعنى نتيجة الاختبار السيئة يعني العذاب، قال بعضهم: بل أنتم قوم تعذبون، يعني إنما يحصل لكم مما يسوءكم ليس من جهتي، ليس من عندي بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي: تعذبون بذنوبكم، وبسبب سوء حالكم، وعدم استجابتكم، بسبب شرككم تعذبون بذنوبكم، وبعضهم يقول: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي: يفتنكم الشيطان عن طاعة الله، وطاعة رسوله - عليه الصلاة والسلام - يفتنكم بهذه الطيرة، فيحصل لكم مثل هذا الاعتقاد الفاسد يتلاعب بكم الشيطان، وبعضهم كابن جرير يقول: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي تختبرون بي، أن الله أرسلني إليكم، وابتلاكم بي، فالرسل - عليهم الصلاة والسلام - يُبتلون بأقوامهم، والأقوام يُبتلون بالرسل، وهذه الحياة هي دار الابتلاء، فالغني يُبتلى بالفقير، والفقير يُبتلى بالغني، والعالم يبتلى بالجاهل، والجاهل يبتلى بالعالم، والصحيح يبتلى بالمريض، والمريض يبتلى بالصحيح؛ وهكذا، وهذا قاله في مقام الرد عليهم لما تطيروا به، قال لهم: طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ فهذه الأقوال يفتنون: يختبرون إذا قيل إنهم يبتلون بالطاعة، والمعصية، فهذه الحياة دار ابتلاء خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سورة الملك:2]، وإذا قيل: إنهم يبتلون برسولهم هل يستجيبون أو لا، فكذلك هو مبتلى بهم والله -ىتبارك وتعالىى- يقول: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [سورة الأعراف:6] يسأل الرسل عن أقوامهم ماذا أجابوكم؟ ويسأل الأقوام عن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ماذا بلغوكم؟ أو هل بلغوكم البلاغ المبين؟ وهكذا ما يعطاه الناس من الدنيا والمتع هو ابتلاء، وما يحصل لهم من هذا الشؤم هو نوع ابتلاء، وما يقع في قلوبهم إلى غير ذلك من المعاني - والله تعالى أعلم -.

  1. رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).