قوله - تبارك وتعالى -: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ما ذكره هنا من كُمون هؤلاء في الغار لا دليل عليه، وظاهر القرآن يدل على أنهم أرادوا قتله وأهله ليلاً لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ يعني يمكن أن يأتوا إليه في الليل في بيته فيقتلوه مع أهله جميعاً ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ يعني ولي الدم من عصباته مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ بمعنى أنهم كانوا يتهيبون من أوليائه، وعصباته، وقد لا يكون هؤلاء على دينه أصلاً، ولكن الله قد ينصر أنبياءه - عليهم الصلاة والسلام - بمثل هذا؛ كما حمى أبو طالب النبي ﷺ حمية، وتسخيراً من الله - تبارك وتعالى - له، وهكذا كما في قوله - تبارك وتعالى -: وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ [سورة هود:91-92] فهم راعوا هؤلاء الجماعة، والرهط، والقوم، فيدل على أن الأنبياء أو الدعاة إلى الله قد يحوطهم الله - تبارك وتعالى -، ويهيئ لهم من الأسباب ما كان من هذا القبيل حمية؛ وما إلى ذلك، فهؤلاء تقاسموا، وحلفوا بالله - تبارك وتعالى -، وهذا يدل على أنهم كانوا يعرفون الله، أقسموا به، والقسم إنما يكون بمعظَّم، أقسموا أن يقتلوا نبيه - عليه الصلاة والسلام -، وأن يقتلوا أهله معه، هكذا تعاهدوا، قال: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وحقيقة المكر هو الأخذ بطريق خفي من حيث لا يشعر بذلك الممكور به، فقد يكون ذلك بأمر يحبه، ويقبل عليه، ويدخل فيه الاستدراج بالنعم، والعطاء؛ إلى غير هذا من الوجوه الخفية التي يحصل بها الإهلاك من وجه لا يشعر به المهلَك، وصفة المكر ثابتة لله - تبارك وتعالى - على الوجه الذي يليق بجلاله، وعظمته، حيث يكون ذلك كمالاً يعني ليس بإطلاق، فالمكر ليس من الصفات الكاملة، وإنما يكون كمالاً في محال دون غيرها، فالله - تبارك وتعالى - له من هذا الوصف ما يكون كمالاً، ولهذا ليس ذلك من أسمائه - تبارك وتعالى -، ولا يقال: إن هذا من صفاته بإطلاق هكذا، ولكن المكر يمدح، ويكون مستحسناً إذا كان في موضع يحسن فيه ذلك، يعني إذا وجد مثلاً من يفسد، ويتأذى الخلق به، فقام من خلصهم منه بحيلة خفية، أوقعه في سوء عمله؛ فإن الناس يحمدون هذا، ويرون أن ذلك من الكمال؛ فهذا لا إشكال فيه أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ [سورة الأعراف:99] ولا يقال: إن ذلك لا يقال على الله - تبارك وتعالى - إلا بمقابل ذكر المكر من الكافرين والماكرين، لا، وإنما يقال: هذا ليس بلازم، هنا قال: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا، لكن في قوله: أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ هل ذكر مكرهم؟ الجواب: لا، وبعض أهل العلم يذكر ذلك في تقريره لهذه الصفة، بعض أهل السنة يقول: ذلك لا يقال إلا في مقابل ذكر مكر الماكرين، ولهذا بعض من يؤول، وبعض من لا يشعر بأن ذلك من التأويل يقول: هذا من قبيل المشاكلة، والواقع أن المشاكلة نوع من المجاز؛ يعني لا حقيقة له، وبعض أهل السنة يعبر بهذا، ولا يشعر بما تحته يقول: لا تقال إلا مع ما يقابلها من وصف الكافرين بذلك مثلاً، وليس ذلك بلازم؛ فقوله: أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ لم يذكر فعلهم، ومكرهم، قال: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وهذا حقيقة المكر من حيث لا يشعر الممكور به فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، فالله - تبارك وتعالى - يقول لنبيه ﷺ: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ ليحصل الاعتبار بذلك كما قال الله - تبارك وتعالى -: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [سورة فاطر:43] جاء بها بأقوى صيغة من صيغ الحصر النفي، والاستثناء؛ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، فالمكر السيئ يرجع إلى أصحابه وهنا قال: أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ على قراءة الجمهور، وإنا دمرناهم على الاستئناف جملة جديدة، ويكون ذلك من قبيل التفسير على هذه القراءة التي نقرأ بها أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فهذه عاقبة مكر هؤلاء المجرمين، وذلك وعيد لكل من يتصف بصفتهم، ويحارب دين الله ، وأولياءه؛ فعاقبته إلى خسار، لكن أولئك لا يفقهون؛ لأن الله - تبارك وتعالى - طمس على قلوبهم، وقد لا يقرءون القرآن أصلاً، ولا ينتفعون به، ولكن العبرة لأهل الإيمان ينبغي أن يعتبروا بمثل هذا، وأن يثقوا بدين الله، وأنه منصور، وأن الله حافظ دينه، وأن مكر هؤلاء المجرمين يرجع إليهم، وأن دين الله محفوظ، وأن الله مظهر دينه، ولكن ليبلو الخلقَ بعضهم ببعض فينظر في عملهم، فمن الخطأ أن الإنسان ينكسر، وتنثني قناته، ويتخلى عن مبدئه، ودعوته، وما عرف من الحق من أجل كثرة ما يرى من الكيد، والصد، وسخرية الساخرين، ولمز اللامزين من أعدائه من المنافقين، والزنادقة وغيرهم، فهذا لا يزيده إلا ثباتاً، فهذه أخبار الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وما يعقب الله ذلك مما ترون، كل هذا لا يزيد المؤمن إلا ثباتاً على الحق، وصبراً عليه، وحسن ظن بالله .