"قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قوله: أَمْ مَنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة النمل:61].
يقول: أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا أي: قارة ساكنة، ثابتة، لا تميد، ولا تتحرك بأهلها، ولا ترجف بهم، فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش، والحياة".
قوله: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ فَعَلَ هذا؟ - كما يقول ابن القيم - هو الذي اختاره ابن جرير، وابن كثير - رحمه الله - كما سمعتم أشار إلى الجمع بين القولين.
هنا في قوله - تبارك وتعالى -: أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا "أي: قارة ساكنة، ثابتة، لا تميد، ولا تتحرك بأهلها، ولا ترجف بهم" يعني: جعل لها رواسي، صارت قارة، ثابتة، يتقلب الخلق عليها، ويسعون في مصالحهم، ويمشون في مناكبها، ولا يحصل لهم فيها اضطراب، وإنما هي ساكنة هذا القدر، ولا إشكال فيه، لكن هل هذا ينفي ما يذكره المعاصرون أو كثير من المعاصرين من أن الأرض تتحرك يعني تدور، الذين منعوا من ذلك تمسكوا بأن الله يقول: أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا فهي مستقرة، فكيف يقال: إنها تتحرك وتدور؟، وبصرف النظر عمن قال: إنها تتحرك، وتدور؛ لا يقال: إنه مكذب ومناقض للقرآن؛ لأن حركة الجرم الكبير جداً في الأرض بهذا اللون من الحركة لا تظهر للناس، ولا يشعرون بها، فهي بالنسبة إليهم قارة ثابتة لا يرون هذه الحركة، ولا تؤثر فيهم، وهذا وجه الامتنان جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا بمعنى أنها لا تضطرب، ولا تتحرك بهم حركة تؤثر على الخلق، فالزلزلة مثلاً اضطراب، وحركة قوية في الأرض؛ تؤثر غاية التأثير، كانت الأرض مضطربة تميد بالناس فهنا وجه الامتنان بجعلها قارة يعني لا تضطرب، ومن قال: إنها تتحرك وتدور، لا يقال: إنه مكذب القرآن، ومناقض للقرآن؛ لأن الله قال: أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا، وحركة الجرم الكبير هذه الحركة الرتيبة لا يشعر بها الخلق، فالعامة مثلاً لا يشعرون أن الأرض تدور، لا يخطر في بالهم ذلك أصلاً؛ لأنهم لا يشعرون بهذه الحركة، فمن قال: إنها تتحرك، لا يقال: إنه مكذب بالقرآن فهو كافر؛ لأن الآية ليست صريحة في ذلك بمعنى أن القرار المقصود أنها لا تميد بالناس لا تضطرب، لكن هي في العين تتحرك، وهذا كما قيل في قوله - تبارك وتعالى - في وصف الأرض بأن الله جعلها بساطاً منبسطة، ونحن نعلم أن الأرض كروية، الله قال: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا [سورة نوح:19] فمن قال: إنها دائرية لا يكون مكذباً للقرآن؛ لأن هذا التكور في الجرم الكبير لا يبدو للناظرين، بل تبدو كأنها مسطحة، والواقع أنها كروية، والذي يكون تكذيباً للقرآن من يقول: إن الشمس ثابتة لا تتحرك، وإن الأرض هي التي تدور حول نفسها، تدور حول الأرض، والشمس لا تتحرك، ومن دورة الشمس يحصل الليل والنهار، وليس من دوران الأرض كما يقوله أهل الفلك، والدليل على هذا أن الله - تبارك وتعالى - قال: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا [سورة يس:38]، فالذي يقول: لا تتحرك هذا مناقض للقرآن، وهكذا في قوله - تبارك وتعالى - في التعاقب والتتابع بين الشمس والقمر: لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ [سورة يس:40]، لا يجوز بحال من الأحوال أن يقال في معناها: إنها تجري، وإن القمر أيضاً يجري، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يقال ذلك، يحتاج الناس أن يعلموا بهذا، وأن الحقائق المذكورة في القرآن هي التي يجب الوقوف عندها، وعدم الالتفات إلى ما خالفها؛ لكن من القرآن ما يكون صريحاً، وأحياناً لا يحتمل معنى آخر مثل هذه وَالشَّمْسُ تَجْرِي فلا يجوز لأحد أن يقول: إنها ثابتة لا تتحرك، لكن في مسألة الانبساط والأرض كروية فهذا لا يناقض القرآن، وكروية الأرض ذكرها العلماء قديماً، وذكرها شيخ الإسلام على أنها قضية مسلمة، قضية معروفة لكن التكور في الجرم الكبير لا يظهر للناظر - والله تعالى أعلم -.
"وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا أي: جعل فيها الأنهار العذبة الطيبة تشقها في خلالها، وصرفها فيها ما بين أنهار كبار، وصغار؛ وبين ذلك، وسيرها شرقًا وغربًا، وجنوبًا وشمالاً؛ بحسب مصالح عباده في أقاليمهم، وأقطارهم؛ حيث ذرأهم في أرجاء الأرض، سَيَّرَ لهم أرزاقهم بحسب ما يحتاجون إليه".
تذكرون الكلام الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - في مناسبة سابقة لما تكلم على هذه الآية ذكر جعْل الأنهار في الأرض فقال: الله يسوق المطر إلى الأرض فتنبت، ومن الأرض ما يكون سباخاً إذا جاءه المطر فإن ذلك لا ينفعه، ولا يحصل به الإنبات، وإنما يأتيه الماء من أماكن أخرى فيحصل بذلك نفع الناس، ومثل على هذا بأرض مصر، الأرض التي لا تنتفع بالمطر تأتيها الأنهار.
"وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ أي: جبالاً شامخة ترسي الأرض، وتثبتها؛ لئلا تميد بكم.
قوله تعالى: أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا، ووَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ تثبت لا تضطرب، يعني الذين يقولون: إن الأرض تتحرك يحتمل أن ذلك لا يناقض القرآن مناقضة صريحة، لأن المعنى لا تضطرب بالناس وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ تثبتها من الاضطراب، والزلزلة.
"وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أي: جعل بين المياه العذبة، والمالحة حاجزًا، أي: مانعًا يمنعها من الاختلاط؛ لئلا يفسد هذا بهذا، وهذا بهذا، فإن الحكمة الإلهية تقتضي بقاء كل منهما على صفته المقصودة منه، فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار السارحة الجارية بين الناس، والمقصود منها: أن تكون عذبة زلالاً تسقى الحيوان، والنبات، والثمار منها، والبحار المالحة هي المحيطة بالأرجاء، والأقطار من كل جانب، والمقصود منها: أن يكون ماؤها ملحًا أجاجًا؛ لئلا يفسد الهواء بريحها كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا [سورة الفرقان:53].
ابن كثير - رحمه الله - يقول عن الحاجز: مانع يمنعها من الاختلاط؛ لئلا يفسد هذا بهذا، فبعضهم يقول: الحاجز من اليابسة، فالأنهار تجري في شقوق الأرض لا تختلط بالبحار إلا في مصباتها، فتبقى في هذه الشقوق عذبة حلوة، وبعض أهل العلم يقول: المقصود بالحاجز أنها لا تختلط، لا يطغى هذا على هذا، فحينما تصب الأنهار في البحار فإن ذلك لا يُحول البحار إلى مياه عذبة على طول الزمان، وكثرة ما يصب فيها من الأنهار في العالم، وكذلك البحار لا تطغى على الأنهار فتمازج مياهها، فتتحول مياه الأنهار؛ لأنها صغيرة بالنسبة للبحار، لا يطغى عليها البحر فيمزجها فتتحول مياه الأنهار إلى مياه ملح، وجعل بينهما حاجزاً هذا لا إشكال فيه، والمعنى ظاهر، وما يقال زيادة على ذلك من التفصيلات قد لا يناقض ما قاله السلف أعني ما يذكره أصحاب الإعجاز العلمي فهذا من الأمثلة التي يمكن أن يقبل فيها ما يقولون: فحينما يقولون مثلاً: جعل بينهما حاجزاً: جعل مكان الملتقى هذا المكان الذي يُلتقي فيه يصب فيه النهر للبحر، هذه المنطقة تبقى منطقة لها خصائص معينة، وتعيش فيها كائنات معينة، وذاك بحر، هذا هو الحاجز، أو ما يقولونه من أن المياه الحلوة العذبة حينما تصب في البحار تبقى، وتحافظ على خصائصها، وأن العيون التي في البحار لها مساراتها، وأنها لا تمتزج بماء البحر - على أنها تتحول إلى ملح - وإنما تبقى حلوة، فإن صح ذلك فهذا من جملة التفصيل الذي يذكر في الآية، وهكذا ما يذكرونه، وجعل بين البحرين حاجزاً: يقولون: بين البحر والبحر وليس البحر والنهر، يقولون: البحر والبحر الملتقى بينهما يكون له خصائصه، هذه المنطقة تعيش فيها كائنات غير الكائنات التي تعيش هنا وهنا، ونسبة الملوحة فيها تختلف عن هذا البحر، وهذا البحر، فهذا حاجز بين البحرين، ونحن نعرف أن البحار تختلف في خصائصها، والكائنات التي تعيش فيها، يعني: في نسب الملوحة، والنباتات التي تكون فيها، والكائنات التي تعيش فيها، يعني انظر إلى الخليج العربي هو من أكثر مياه البحر في العالم ملوحة، وهذا معروف، شديد الملوحة، وتجد أن لونه كدر إلى حد ما يعني ليس بذلك الصفاء لربما لكثافة ملوحته، لكن إذا ذهبت إلى البحار الكبيرة كالمحيطات تجد أن الملوحة أقل بكثير، وتجد أن الماء في غاية الصفاء، حتى البحر الأحمر فيه ملوحة، وترى صفاء الأرض، وما لا تراه في هذا البحر تراه في البحار الأخرى، والمحيطات، وحينما تسبح في هذا المحيط تسبح ولا تحتاج أن تغمض عينيك، فإذا أصاب العين شىء من الماء في البحار الصغيرة فإن ذلك يشق على الإنسان، وهناك في المحيطات لا يحدث شىء من ذلك، كأنك تسبح في نهر لا يؤذي العين إطلاقاً، ولا تشعر بشدة الملوحة في مياه المحيطات، فهذا له خصائص وهذا له خصائص، هو بحر لكن مع طول هذه المدة من الالتقاء لن تمتزج هذه البحار بحيث تكون وحدة ذات خصائص متحدة، ولذلك حتى الكائنات التي تعيش هنا غير الكائنات التي تعيش هناك، فبعض الأسماك توجد في البحر المتوسط، ولا توجد في الخليج العربي، أو البحر الأحمر والعكس - والله تعالى أعلم -.
"ولهذا قال: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ أي: فعَلَ هذا؟ أو يعبد؟ على القول الأول والآخر، وكلاهما متلازم صحيح، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي: في عبادتهم غيره.
قوله تعالى: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ أي: فَعَلَ هذا؟ أو يعبد؟، وعلى القول الأول والآخر كلاهما متلازم صحيح، جمَعَ بين القولين.