الخميس 22 / ذو الحجة / 1446 - 19 / يونيو 2025
أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلْأَرْضِ ۗ أَءِلَٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ [سورة النمل:62].

ينبه - تعالى - أنه هو المدعُوّ عند الشدائد، المرجُوّ عند النوازل كما قال: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ [سورة الإسراء:67]، وقال تعالى: ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [سورة النحل:53]، وهكذا قال هاهنا: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ أي: مَنْ هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه؟".

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ المضطر هو المجهود المكروب الذي لا حول له ولا قوة، قد انقطعت به الأسباب؛ ولهذا يذكر أهل العلم في سبب إجابة الله دعوة المضطر يقولون: لما انقطعت به العلائق، والأسباب؛ فإنه يخلص في هذه الحال الدعاء إلى الله - تبارك وتعالى -؛ ولهذا قال الله : فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [سورة العنكبوت:65] فإذا انقطعت علائقه؛ وحّد وجهته إلى ربه، وخالقه ، فعندئذ يجيبه الله حينما لا يبقى في القلب أي التفات إلى المخلوقين، أو ما يعبد من دون الله - تبارك وتعالى -، وقوله: وَيَكْشِفُ السُّوءَ كل ما يسوء العبد، وبعضهم يقول: هو الضر، يكشف السوء: يكشف الضر من مرض ونحوه، والمعنى أعم من ذلك، يكشف السوء: كل ما يسوء الناس، ويدخل فيه الضر، والمرض.

"روى الإمام أحمد عن رجل من بلهجيم قال: "قلت: يا رسول الله إلام تدعو؟ قال: أدعو إلى الله وحده، الذي إن مَسّك ضر فدعوته كشف عنك، والذي إن أضْلَلْت بأرض قَفْر فدعوتَه رَدّ عليك، والذي إن أصابتك سَنة فدعوتَه أنبتَ لك، قال: قلت: أوصني، قال: لا تَسُبَّنَّ أحدًا، ولا تَزْهَدنّ في المعروف، ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، ولو أن تُفرغَ من دَلوك في إناء المستقي، واتزر إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار، فإن إسبال الإزار من المخيلة، وإن الله - تبارك تعالى - لا يحب المخيلة[1].

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجلية قالت: هزم الكفار يوماً المسلمين في غزاة، فوقف جَوَاد جَيّد بصاحبه، وكان من ذوي اليسار، ومن الصلحاء، فقال للجواد: ما لك؟ ويلك، إنما كنت أعدّك لمثل هذا اليوم، فقال له الجواد: وما لي لا أقصّر وأنت تَكلُ علوفتي إلى السُّواس، فيظلمونني، ولا يطعمونني إلا القليل؟ فقال: لك عليَّ عهد الله أني لا أعلفك بعد هذا اليوم إلا في حِجْري، فجرى الجواد عند ذلك، ونجَّى صاحبه، وكان لا يعلفه بعد ذلك إلا في حِجْره، واشتهر أمره بين الناس، وجعلوا يقصدونه ليسمعوا منه ذلك، وبلغ ملك الروم أمرُه، فقال: ما تُضَام بلدة يكون هذا الرجل فيها".

ما تضام بلدة يكون هذا الرجل فيها، يقول يعني لا تغلب، ولا تقهر بلدة يكون هذا الرجل فيها، يقول: لا سبيل لنا عليهم ما دام مثل هذا فيهم، فأراد أن يأخذه، ويأسره ليسلط عليهم.

"واحتال ليحصّله في بلده، فبعث إليه رجلاً من المرتدين عنده، فلما انتهى إليه أظهر له أنه قد حَسُنت نيته في الإسلام، وقومه".

هذا مأسور وارتد، فأرسله ملك الروم، واحتال على هذا الرجل، وجعله يأتي ليؤسر يعني يتلطف به، وأخرجه معه إلى البلد حتى يمكن أسره.

"حتى استوثق، ثم خرجا يوماً يمشيان على جنب الساحل، وقد واعد شخصاً آخر من جهة ملك الروم ليتساعدا على أسره، فلما اكتنفاه ليأخذاه رَفَع طرفه إلى السماء، وقال: اللهم، إنه إنما خَدَعني بك فاكفنيهما بما شئت، قال: فخرج سبعان إليهما فأخذاهما، ورجع الرجل سالماً".

هذه واقعة إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:20] قد يحصل هذا، والنبي ﷺ أخبر عن تكلم الذئب حينما قال للرجل الذي استنقذ منه الشاة: أتمنعني رزقاً ساقه الله إليَّ؟[2]، وقال: بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث[3] فالله - تبارك وتعالى - قادر، لكن مثل هذه الواقعة التي ذكرها ابن عساكر عن هذه المرأة فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجلية يعني نحن ننظر إلى هذا كأنه من أخبار بني إسرائيل؛ يعني لا نصدق مثل هذا، ولا نبادر إلى تكذيبه؛ لأنه غير ممتنع.

"وقوله تعالى: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أي: يُخْلفُ قَرناً لقرن قبلهم، وخَلَفًا لسلف كما قال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [سورة الأنعام:133]، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [سورة الأنعام:165]، وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30] أي: قومًا يخلف بعضهم بعضاً، كما قدمنا تقريره".

يعني: يخلف بعضهم بعضاً سواء قيل: إن الأمم يخلف بعضها بعضاً، أو إن الأجيال يخلف بعضها بعضاً، فالأولاد يخلفون الآباء، وهذا المعنى هو الأقرب - والله تعالى أعلم - أن قوماً يخلف بعضهم بعضاً، ولا يقال: إنهم خلفاء عن الله ، هذا وإن قال به بعض أهل العلم إلا أنه غير صحيح، والله أجل وأعظم من أن يخلفه أحد من خلقه، والكلام في هذه المسألة تجدونه في قوله - تبارك وتعالى -: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30] ولا يقال: هو خليفة عن الله، ولا يقال: الإنسان خليفة الله بأرضه كما يقال، الأقرب أن ذلك غير مراد، وأنه لا يسوغ أن يقال: الإنسان خليفة الله في أرضه، وإنما خليفة: أن يخلف بعضه بعضاً، وبعض أهل العلم في آية البقرة خاصة يقول: صاروا خلفاء من الجن، فإن الجن كانوا قبل الإنس في الأرض، فأفسدوا فيها؛ ولهذا قالت الملائكة لما أخبرهم الله عن هذا الاستخلاف: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء قاسوا ذلك على الجن، وليس بلازم، فقد يكون الله   أطلع الملائكة على حال آدم وما ركب فيه من الشهوات مما يقتضي وقوع هذا الفساد من سفك الدماء وما إلى ذلك، لكن ليس المقصود أنهم خلفاء عن الله، فالإنسان ليس بخليفة عن الله .

"وهكذا هذه الآية: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أي: أمة بعد أمة، وجيلاً بعد جيل، وقومًا بعد قوم، ولو شاء لأوجدهم كلهم في وقت واحد، ولم يجعل بعضَهم من ذرية بعض، بل لو شاء لخلقهم كلهم أجمعين كما خلق آدم من تراب، ولو شاء أن يجعلهم بعضهم من ذرية بعض ولكن لا يميت أحداً حتى تكون وفاة الجميع في وقت واحد، فكانت تضيق عليهم الأرض، وتضيق عليهم معايشهم، وأكسابهم، ويتضرر بعضهم ببعض، ولكن اقتضت حكمته، وقدرته أن يخلقَهم من نفس واحدة، ثم يكثرَهم غاية الكثرة، ويذرأَهم في الأرض، ويجعلهم قروناً بعد قرون، وأمماً بعد أمم، حتى ينقضي الأجل، وتفرغ البَرية، كما قدر ذلك - تبارك وتعالى -، وكما أحصاهم وعَدّهم عَدًّا، ثم يقيم القيامة، ويُوفي كلّ عامل عمله إذا بلغ الكتاب أجله؛ ولهذا قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ أي: يقدر على ذلك؟، أو أإله مع الله بعد هذا يُعْبد، وقد علم أن الله هو المتفرد بفعل ذلك قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ أي: ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق، ويهديهم إلى الصراط المستقيم".

هنا في المعنى الذي ذكره في قوله: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ كلام ابن كثير - رحمه الله - يشرح هذه الآية وهي من دلائل قدرة الله : وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أجيال وهكذا، يعني بهذه الطريقة لو شاء الله جعل الناس جميعاً؛ أوجدهم مرة واحدة كما خلق آدم، ويموتون في وقت واحد؛ فتضيق بهم الأرض، فلو كل الناس من أولهم إلى آخرهم وُجدوا وخُلقوا كما خُلق آدم، ويموتون في وقت واحد؛ فإن الأرض تضيق بهم، ولكن من حكمته - تبارك وتعالى - أن جعلهم خلفاء الأرض، فهذا الجيل يُفنى الآباء، ويُولِد الأبناء، يَفنى أناس فلا تشعر بفراغ بعد موت الآباء؛ لأنه وجد الأبناء، ثم يتحول هؤلاء الأبناء إلى آباء، ثم يكونون كالزرع الذي آن حصاده؛ فيتحولون إلى أجداد، ثم بعد ذلك يبدؤون بالفناء، ومن الناس من يتوفى قبل ذلك، ويوجد، ويولد في نفس الوقت، يولد أناس، ويموت أناس، هكذا الأجيال تتعاقب، فلا يُشعر بموتهم من جهة الكثرة، أو القلة، ولا يُشعر أيضاً بالمواليد من جهة الكثرة، فإذا قيل: إنه ولد مثلاً مليون إنسان في هذا اليوم لا ترى زحاماً في الطرقات، وإذا قيل: مات مليون إنسان في العالم في هذا اليوم؛ لا ترى فراغاً، لكن ذلك يأتي بالتدريج بهذه الطريقة، يعني لو قدر لنا أن نضع ذلك بألوان ونحو هذا تجد رأس هذا الجيل باللون الأصفر، ووسطه باللون الأحمر، أوله الطرف الأسفل بلون آخر أخضر يعني هؤلاء جيل جديد ثم بعد ذلك يزهو ويكتمل، ثم بعد ذلك يصفر، ثم ينقضي ثم يتلاشى، وهكذا ينبت الجيل الجديد، ويتحول إلى آباء، ويأتي جيل بعدهم، وجيل بعدهم، ويتعاقب الناس بهذه الطريقة، فالجيل الذين قبلنا ماتوا، ولو أنهم ماتوا جميعاً في يوم واحد لعُد ذلك فناء عاماَ للناس، ولكن الناس يفنون كل جيل يفنى، لكن اليوم واحد، وغداً آخر، وبعده آخر، وهكذا الجيل الجديد ما يوجد دفعة واحدة، وإنما اليوم واحد، وغداً آخر، وبعده شيئاً فشيئاً، ثم يحصل هذا التعاقب، وتصرف الأموال فيهم، والثروات تنتقل من جيل إلى آخر، ويرثون الأرض، فهذه الأرض التي نحن فيها وجد فيها أجيال قبلنا لكنهم انقضوا، وماتوا، وثرواتهم انتقلت إلى الذين بعدهم، هذه آية من آيات الله - تبارك وتعالى - في هذا الخلق.

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (20636)، وقال محققوه: إسناده صحيح.
  2. رواه أحمد في المسند، برقم (11792)، وقال محققوه: رجاله ثقات رجال الصحيح، القاسم بن الفضل الحداني، وأبو نضرة: وهو المنذر بن مالك العبدي، يزيد: هو ابن هارون، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (122).
  3. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [سورة الكهف:9]، برقم (3284).