"وقوله: بَلِ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا أي: انتهى علمهم، وعجز عن معرفة وقتها.
وقرأ آخرون: "بل ادَّارَكَ علمُهم" أي: تساوى علمهم في ذلك كما في الصحيح لمسلم: أن رسول الله ﷺ قال لجبريل - وقد سأله عن وقت الساعة -: ما المسئول عنها بأعلم من السائل[1] أي: تساوى في العجز عن دَرْك ذلك علم المسئول، والسائل.
وقوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا عائد على الجنس، والمراد الكافرون كما قال تعالى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا [سورة الكهف:48] أي: الكافرون منكم، وهكذا قال هاهنا: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا أي: شاكُّون في وجودها، ووقوعها، بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ أي: في عمَاية، وجهل كبير في أمرها، وشأنها".
فقوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في الآية قراءتين وهما قراءتان متواترتان الأولى بل أدرك، والثانية بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ، وحمل الأولى أدرك قال: أي انتهى علمهم، وعجز عن معرفة وقتها، وأدرك بمعنى انتهى باعتبار أن الشيء إذا أدرك يكون قد بلغ منتهاه تقول: أدرك الثمر بمعنى أنه بلغ منتهاه، فليس له بعد ذلك إلا الزوال، والاضمحلال، يعني لا يُنتظر فيه كمال بعد ذلك، بلغ المنتهى، فهنا قال: أدرك أي انتهى علمهم، وعجز عن معرفة وقتها؛ هذا وجهه، لما ذكر القراءة الأخرى ادَّارَكَ قال: أي تساوى علمهم في ذلك، ادَّارَكَ يعني تدارك فصاروا متساوين في علمها بمعنى أنه لا يحيط أحد بعلمها، أو لا يعلم متى وقوع الساعة إلا الله - تبارك وتعالى -، هذا معنى ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، والآية فيها كلام كثير لأهل العلم، بل ذكر فيها بعضهم اثنتي عشرة قراءة، ولكن المتواتر منها قراءتان، وهو ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، ومن أراد الوقوف على هذه القراءات فلينظر في مثل كتاب "البحر المحيط" لأبي حيان - رحمه الله - قد ذكرها، وأطال الكلام عليها، كما تكلم عليها بكلام جيد مفصل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في "أضواء البيان"، وخلاصة ما ذكره أهل العلم في تفسيرها بَلِ ادَّارَكَ فالجمهور يقولون: أصله تدارك، وبعضهم يقول: تكامل علمهم في الآخرة، وهذا المعنى من أدرك الثمر إذا نضج، واكتمل، وبلغ الغاية، عكس ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - وهؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث ليس عندهم هذا العلم الكامل في الآخرة، لكن هؤلاء حملوه على أن ذلك واقع في الآخرة، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ، فـ"في" ظرفية يعني في الآخرة يحصل لهم كمال العلم لما عاينوا من الحقائق فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [سورة ق:22] فتنكشف عنهم الحجب، ويعرفون حقيقة ما جاء به الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، فتزول عنهم الأوهام، والشكوك، والتكذيب، والآخرة كما هو معلوم إذا رأوها عندئذ يقرون، ويتمنون أنهم لو اتبعوا الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، فهنا يقولون: يعني اكتمل، يعني في الآخرة يكتمل، ويحصل لهم كمال العلم، فهؤلاء جعلوه في الآخرة يعني في اليوم الآخر يحصل لهم الكمال لما يعاينون لكن من جعل ذلك متعلقاً - يعني متعلق العلم - بقضية الآخرة، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ فبعضهم يقول: بَلِ ادَّارَكَ أي ضعف كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي فهذا يكون محمولاً على الدنيا عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ فيكون متعلق العلم القضية التي يرتبط بها علمهم من حيث الكمال، والضعف، والقوة إلى آخره هي قضية الآخرة التي يجادلون فيها، ويستبعدون وقوعها، فإذا قلنا: إن هذا في الدنيا على ضعف العلم، وهكذا قول من قال ككبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - حيث حمله أيضاً على أن ذلك في الدنيا، بَلِ ادَّارَكَ قال تتابع، هذا الشيء متدارِك أو متدارك فيه تتابع، متتابع علمهم في الآخرة هل هي واقعة أو غير واقعة، ادَّارَكَ أي: تتابع علمهم في شأن الآخرة من حيث الوقوع وعدمه، وهكذا القول الذي وجهت به كلام ابن كثير - رحمه الله -، قال في الأول أدرك علمهم في الآخرة انتهى، وعجز، فبعضهم يقول: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ أي: انتهى، وتلاشى، واضمحل، فلا علم لهم بها، فهذا في الدنيا إنما هي ظنون كاذبة، يقولون: تقول: أدرك الثمر يعني صار إلى حال يكون بعدها الاضمحلال، يكون إلى الجذاذ، أو القطاف؛ فلا يرجى له بعد ذلك كمال، وابن عاشور - رحمه الله - يذكر أن المفسرين تحيروا في هذا الموضع، وتقابلت فيه أقوالهم، ثم حاول أن يستخرج خلاصة ما ذكروه، أو ما تحتمله الآية؛ فذكر ثلاثة احتمالات:
الأول: وهو الذي اختاره أن التدارك هو أنّ علم بعضهم لحق علم بعض في أمر الآخرة، وما المراد، يقول: هذا يحتمل يعني علم بعض هؤلاء أدرك علم بعض، يقول: فيحتمل أنها تداركت علوم الحاضرين مع أسلافهم؛ يعني تلاحقت، فتلقى الخلف عن السلف علمهم بالآخرة بلا بصيرة ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ أدرك المتأخرون علم المتقدمين في الآخرة، وعلم المتقدمين منهم إنما هو ظنون، وأقوال كاذبة، لم تُبنَ على علم، ولم تُتلقَّ من الوحي، وإنما هي أوهام، وتخرصات؛ يتلقاها الخلف عن السلف بلا بصيرة ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ أدرك المتأخرين علم الأولين، وصلهم علم الأولين فتلقفوه من غير تبين، وتبصر، هم يتلقفون هذه الجهالات بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ صاروا يقلدون الآباء، ويتلقفون مقالتهم دون تمحيص، وإنما مبنى ذلك كله الجهل، ادَّارَكَ وأدرك، ويحتمل معنى آخر ذكره، وهو أن ذلك يرجع إلى معنى الاختلاط، والتضارب، والتداخل، والتناقض، فهم ينكرونها كما جاء في كثير من المواضع في كتاب الله : أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [سورة ق:3] إلى غير ذلك من الآيات، وفي الوقت نفسه يعبدون الأصنام، ويقولون: هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ [سورة يونس:18]، إذاً هم ينكرون وقوع الآخرة، ثم في الوقت نفسه يعبدون الأصنام؛ لتكون شافعة لهم عند الله ، وأنتم لا تؤمنون بالآخرة، ولا تحتاجون هذه الشفاعة، يعني فقالوا: بَلِ ادَّارَكَ أي: اضطرب، وتداخل، وتناقض، ويحتمل أن ذلك مبالغة من الإدراك بمعنى النضج، والكمال يعني أن يكون ذلك واقعاً في الآخرة، فتكون الفاء للظرفية ادارك في الآخرة، تكامل في الآخرة، هذا على قراءة ادَّارَكَ، أما على قراءة ابن كثير وأبي عمرو أدرك فحمله بعض أهل العلم على الكمال، حال المعاينة في اليوم الآخر أدرك بمعنى بلغ، كما تقول: أدركته إذا بلغته يعني أنهم وصلوا إلى حقيقة علم الآخرة على أكمل الوجوه، وأتمها، لكن لما فات الأوان، ولا ينفعهم الإيمان عند ذلك، وبعضهم يقول: هذا بمعنى الإنكار لأنه قال بعده: بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ، وهذا قال به: الزجاج، وذكره ابن عطية يعني أنه ينكر عليهم، لا يقرر هذا، لا يخبر عنهم، وإنما يقول: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ على سبيل الإنكار يعني أن علمهم لم يدرك، لم يبلغ، لم يحصل لهم بها معرفة، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ وابن جرير جعلها أيضاً من الاستفهام على هذه القراءة بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ أي هل ادارك علمهم في الآخرة؟، وبعضهم يقول: حتى هذه القراءة بَلِ ادَّارَكَ أي ضل، واضمحل، وزال، وتلاشى أخذاً من معنى الإدراك الذي ذكرته، وهذا الذي يميل إليه ابن عاشور - رحمه الله - ادَّارَكَ بمعنى فني، وزال، واضمحل علمهم في الآخرة، أدركت الثمر إذا انتهى نضجها.
والخلاصة: أن القراءتين المتواترتين ادارك وأدرك، وأن العلماء - رحمهم الله - مختلفون هل ذلك واقع في الآخرة؟ فهو محمول على الكمال، ادَّارَكَ بمعنى اكتمل، وهنا يقال: اضطرب، أو ضعف، أو تلاشى، وقريب منه قول من قال: أي تتابع، ولحق يعني علم الأولين بعلم الآخرين، الأولون يصدرون عن أقوال متكاذبة مبناها على الخرص، والتخمين فآل ذلك إلى الآخرِين، فصاروا يقولون بقولهم: ويتلقفون هذا الاعتقاد الفاسد في الآخرة، ويقولون: أدركنا عليه الآباء، والأجداد، يعني هذه خلاصة هذه الأقوال، والكلام فيها كثير جداً؛ لكن حاولت أن أقربها قدر المستطاع، وأرجو أن يكون المعنى قد قرب، أو كاد.
في قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ قال: أي في عماية، وجهل كبير في أمرها، وشأنها، عَمِونَ جمع، عَمِىَ يَعْمَى، والوصف منه عَمٍ، والجمع عمون، وتقول: هو أعمى وعمٍ كما يقول زهير:
وأعلمُ علمَ اليومِ والأمسِ قبلَه | ولكنني عن علمِ ما في غدٍ عَمِ |
يعني: أعمى بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ.
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة، برقم (50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله ، برقم (8).