"وقوله: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ أي: تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه وهي تمر مر السحاب، أي: تزول عن أماكنها كما قال تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [سورة الطور:9-10]، وقال وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [سورة طه:105-107]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً [سورة الكهف:47]".
قوله - تبارك وتعالى -: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ قال: أي تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ يعني: تزول من أماكنها، هذه الرؤية وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً هي رؤية عين وليست برؤية علمية، وهذه الرؤية هل هي في الدنيا، أو أنها في الآخرة كما ذكر الله أن الجبال يحصل لها ما وصف من أنها تُدك، وتبس، وتكون كالهباء المنثور، وأنها تسير، فيكون لها ذلك في أهوال القيامة في أول ما يجري لها، ثم بعد ذلك تسير، وبعضهم يقول: في المحشر إذا حشر الناس، والمقصود أن ذلك في اليوم الآخر هذا الذي دل عليه القرآن في هذا الموضع، وفي غيره من المواضع، فالله - تبارك وتعالى - ذكر النفخ في الصور فقال: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ، ثم ذكر حال الجبال وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، ثم ذكر الجزاء: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ فهذا كله في اليوم الآخر، وقد جاءت هذه الآية في ثنايا الخبر عن ذلك اليوم، وهذا الذي عليه السلف قاطبة، وعليه أهل العلم من المفسرين عبر القرون المتطاولة، والآيات التي أوردها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا تدل على هذا المعنى يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [سورة الطور:9-10]، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [سورة طه:105-107]، وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [سورة الكهف:47] كل هذا وغيره يدل على أن ذلك في اليوم الآخر، وبعض المعاصرين يقول: إن ذلك يكون في الدنيا وهو وصف لحالها الآن، ومرادهم بذلك أن الجبال تمر مر السحاب، تمر تمضي تتحرك لكن لا بمفردها على سبيل الاستقلال، وإنما تتحرك بحركة الأرض، قالوا: فهذا دليل على دوران الأرض، الأرض تدور، والجبال تدور معها، والناظر والمشاهد لها لا يدرك ذلك، مع أن الله قال: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ كيف خاطبهم بما لا يدركون، ولا يعرفون، ولا يشاهدون؟ ولم يقل أحد: كيف تتحرك؟ كيف تجري ونحن نجدها في أماكنها؟ فبعضهم يقول: إن الله - تبارك وتعالى - أطلع على ذلك نبيه ﷺ؛ ولهذا وجه الخطاب له على سبيل الخصوص قال: وَتَرَى الْجِبَالَ وترى يا محمد مع أن أكثر المفسرين يقولون: إن الخطاب جاء هنا بصيغة المفرد والمراد به العموم، وإن ذلك لا يختص بالنبي ﷺ، والمقصود أن بعض هؤلاء يقول: إن الله أطلع عليه نبيه ﷺ، وخصه به، ولكن لم يكشف ذلك إلا في القرون المتأخرة، وقبل ذلك ما كانوا يعرفون.
وأنا أقول في مثل هذه المناسبة: إن الإنسان قد يقرأ في بعض التفصيلات، أو بعض ما يسمى بالدراسات، والبحوث، ولربما لبّست عليه بعض ما يعرف، قد يحصل هذا؛ فما المخرج؟ بمعنى هذه طريقة في التفكير، والفهم، والوصول إلى النتائج السليمة من أجل ألا يقع الإنسان ضحية لمفاهيم غير صحيحة، قد تقرأ بعض الدراسات، وبعض البحوث، وبعض الأرقام، وفي أي موضوع من الموضوعات في قضية غير صحيحة، غير دقيقة، ولكن الإنسان قد يحصل له بسبب ذلك شيء من اللبس، فإما أن يبقى متحيراً، وإما أن يصدق ذلك، ويقبل، ويتلقف بعض المفاهيم غير الصحيحة، والمخرج أنه يرجع إلى الأصول الكلية، فإذا خرج إلى الأصول الكلية لم يبقَ في أسر هذا البحث، أو هذه الكتابة، أو هذه المحاولة، أو هذه الدراسة، تجد بعض البحوث والكتابات التي تنشر أحياناً في النت، أو في بعض الكتب، أو بعض الكاتبين لربما يَعمل لك دراسات، وأرقاماً، وإحصاءات، وأشياء على أن الساعة ستقوم عام (2012م)، وإذا قرأت المعطيات التي ذكرها لربما يلتبس هذا على بعض الناس، ويصدق، ولكنك إذا رجعت إلى الأصول الكلية - أعني الأشياء التي ستكون قبل الساعة -، والذين تقوم عليهم الساعة؛ فهناك عندنا المهدي، والمسيح؛ سيمكث في الناس سبع سنين، والحال التي يأتي فيها، الناس يقاتلون بالسيوف، هذا يعنى أن معطيات الحضارة هذه غير موجودة، يعلقون سيوفهم بأغصان الزيتون، فيصيح فيهم الشيطان ويقول: إن الدجال خلَفَكم في أهليكم، فيرجعون في فتح القسطنطينية، وهو فتح غير الفتح الأول على يد محمد الفاتح، وأنهم يكبّرون، مدينة شطرها في البر، وشطرها في البحر، وهذا قد لا يصدق على القسطنطينية، وذكر النبي ﷺ فتح مدينة هرقل عموماً، ولم تفتح بالتكبير، وذاك الفتح يبدأ بالتكبير، فبعضهم يصف مدينة أخرى، الشاهد أنها ستفتح بالطريقة التي وصفها النبي ﷺ، والناس يقاتلون بالسيوف، وإذا خرج يأجوج ومأجوج فقد ذكر النبي ﷺ أن الناس يوقدون - بعد هلاكهم - على نشابهم سبع سنين من أهل الأيمان، والنشاب هي السهام، فهذه الأعواد التي يكون في رأسها الحديدة؛ يوقد الناس على هذه من كثرتها سبع سنين، ودل على أنهم يوقدون بالحطب، ويقاتلون بالسهام، فهذا البحث الذي يقول عام 2012م، وقرأه بعض الناس، والتبس عليه الأمر، وخاف؛ هذا كلام غير صحيح، لا يمكن أن يكون عام 2012م، ما يمكن أن تقوم فيه، وذكر أشياء، ودراسات، وأموراً فيه، ومثل هذه الدراسات يسجّر بها التنور، فعندنا أشياء ثابتة، عندنا أشياء حق لا مرية فيها بعيداً عن التكهنات، والتخرصات، والتحليلات، والقسمة، والطرح، وهنا حينما يقال: إن هذا في الدنيا، وإن الكرة الأرضية تدور، وهذا معنى وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ نرجع إلى أصل كلي وهو أنه لا يمكن أن تُجمع الأمة على ضلالة، لا يمكن أن هؤلاء السلف من الصحابة عبر القرون المتطاولة كلهم يفهمون الآية خطأ، ويقولون: هذا في اليوم الآخر، ثم يأتي أحد في آخر الزمان ويقول: هذا خطأ، والصحيح أنها في الدنيا، وأنها تدور بدوران الأرض، فيُشترط في التفسير العلمي ألا يعود على أقوال السلف بالإبطال يعنى ينبغي أن يكون من باب الزيادة، وقد يكون فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتابه لكن يعود على أقوال السلف كلها بالبطلان!، كلهم فهموا خطأ، ما أحد منهم فهم الآية على وجه صحيح! هذا كلام لا يمكن، فهذا أصل كلي، فإذا التبس على الإنسان اختلف عليه الأمر بسبب ما يقرأ دائماً ينبغي أن يرجع إلى الأصول الكلية، وإلا فسيبقى أسيراً لهذا الكاتب، هذا منجاة بإذن الله ، ويبقى الإنسان على الجادة - والله تعالى أعلم -.
قوله - تبارك وتعالى -: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ إذا قلنا: إن ذلك في اليوم الآخر كما دل عليه القرآن، والسياق، هنا يدل أيضاً على أنه في الآخرة تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ما المعنى على هذا؟ كما قال ابن جرير وابن قتيبة وجماعة من الأئمة بأن ذلك يكون في الأجرام الكبيرة، فإن حركتها قد لا تدرك بالعين لأول وهلة، يعنى: الناظر إلى الجيش كما هو معروف، وكما جاء في أشعار العرب؛ جيش كبير يتحرك - لماذا سمي بالزحف - جيش يتحرك إذا نظرت إليه كأنه واقف، لكن لو نظرت بمكبر من بعيد نظرت إلى أرجل الدواب، وأرجل الناس؛ تجد أنها تتحرك لا تتوقف، لكن ترى الجيش كأنه في مكان واحد، وهو يمشي، ويقطع المسافات، فهذه الجبال تجمع، وتسير؛ فتكون في رؤية العين كأنها قائمة، كأنها واقفة، وهي تسير فهي لكثرتها، وضخامتها؛ إذا نظر إليها الناظر لا يدرك أو لا يشعر بحركتها في اليوم الآخر كأنها واقفة وهي تُسير، والعلماء يذكرون على هذا شواهد من كلام العرب في وصف الجيوش مما يوافق هذا المعنى.
قال الشيخ الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: "قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول، وذكرنا في ترجمته أيضاً أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على المعنى، بكونه هو الغالب في القرآن لأن غلبته فيه، تدل على عدم خروجه من معنى الآية، ومثلنا لجميع ذلك أمثلة متعددة في هذا الكتاب المبارك، والأمران المذكوران من أنواع البيان قد اشتملت عليهما معاً آية "النمل" هذه.
وإيضاح ذلك أن بعض الناس قد زعم أن قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ يدل على أن الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة أي: واقفة ساكنة غير متحركة، وهي تمر مر السحاب، ونحوه قول النابغة يصف جيشاً:
بأرْعنَ مثلِ الطَّودِ تحسبُ أنهم | وقوفٌ لِحاجٍّ والركابُ تُهَملِجُ[1] |
"والركاب تُهَملِج" يقول: كأنهم أي الحجاج وقوف بعرفة مثلاً، والركاب في الواقع أنهم يمشون، فالركاب تهملج فهي سائرة لا تتوقف، لكن شكلهم كأنهم في حال من الوقوف.
وقال - رحمه الله -: "والنوعان المذكوران من أنواع البيان، يبينان عدم صحة هذا القول.
أما الأول منهما وهو وجود القرينة الدالة على عدم صحته: فهو أن قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ معطوف على قوله: فَفَزِعَ، وذلك المعطوف عليه مرتب بالفاء على قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ أي: ويوم ينفخ في الصور، فيفزع من في السماوات، وترى الجبال؛ فدلت هذه القرينة القرآنية الواضحة على أن مر الجبال مر السحاب كائن يوم ينفخ في الصور لا الآن.
وأما الثاني: وهو كون هذا المعنى هو الغالب في القرآن فواضح؛ لأن جميع الآيات التي فيها حركة الجبال كلها في يوم القيامة كقوله تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا، وقوله تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [سورة الكهف:47]، وقوله تعالى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [سورة النبأ:20]، وقوله تعالى: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [سورة التكوير:3].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ: جاء نحوه في آيات كثيرة كقوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [سورة المؤمنون: (14)]"[2].
فالذين قالوا: هذا في الدنيا الواو تكون للاستئناف وليست عاطفة.
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "وقوله: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أي: يفعل ذلك بقدرته العظيمة.
وقوله: صُنْعَ اللَّهِ منصوب على المصدر، وبعضهم يقول: على الإغراء، صنع اللهِ.
"الذي قد أتقن كل ما خلق، وأودع فيه من الحكمة ما أودع إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ أي: هو عليم بما يفعل عباده من خير وشر، فيجازيهم عليه أتم الجزاء.
ثم بيَّن تعالى حال السعداء، والأشقياء يومئذ فقال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا قال قتادة: بالإخلاص، وقد بيَّن تعالى في الموضع الآخر أن له عشر أمثالها.
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا الحسنة إذا قلنا: إن "ال" هذه للجنس وليست للعهد - جنس الحسنة - فله خير منها كما أخبر النبي ﷺ: الحسنة بعشر أمثالها[3]، والله ذكر هذا مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [سورة الأنعام:160]، لكن قوله - تبارك وتعالى -: وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ هذه قرينة حملت كثيراً من أهل العلم على القول بأن الحسنة هنا يراد بها حسنة خاصة وهي حسنة الإيمان، حسنة لا إله إلا الله، حسنة التوحيد، فإنه لا يحصل الأمن إلا لأهلها الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82] فهؤلاء هم الذين يحصل لهم الأمن بقدر إيمانهم، فهم يتفاوتون في هذا الأمر في اليوم الآخر بحسب ما يتحقق لهم من هذا الوصف الذي هو الإيمان فقال هنا: وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ولهذا فسر ابن جرير - رحمه الله -، وغيره؛ هذه الحسنة بما ذكر، و لا فرق بين من عبر عنها بـ" لا إله إلا الله"، أو قال: التوحيد أو قال: الإيمان؛ فكل ذلك صحيح، والسيئة هي الشرك؛ لأنه قال: فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ وهذا لا يكون إلا لأهل الإشراك وليس لجنس السيئات، ثم إن المقابلة بين هذه الحسنة وبين هذه السيئة، وذكْر جزاء هذا وهذا؛ دل على أن الآية يراد بها الإيمان والكفر، حسنة الإيمان وسيئة الكفر كما قال الله - تبارك وتعالى - أيضاً: بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ [سورة البقرة:81] ما هي السيئة والخطيئة التي تحيط بصاحبها؟ هي الشرك.
"وهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ كما قال في الآية الأخرى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ [سورة الأنبياء:103]، وقال: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة فصلت:40]، وقال: وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سورة سبأ: 37].
قوله - تبارك وتعالى -: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ على قراءة أبي عمرو وابن عامر وابن كثير - القراءة متواترة - من فزعِ يومِئذٍ على الإضافة، يعنى فزع ذلك اليوم، هذا في هذه القراءة، وعلى القراءة الأخرى وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ هذا الفزع بعضهم فهم منه فزع النفخة التي في قوله: فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ فقال: هذا فزع معين، فلا يفزعون بسببه، ولذلك من أهل العلم من قال: إنهم أهل الإيمان، هم الذين استثناهم الله فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ قالوا: هم من ذكر الله - تبارك وتعالى -: مِنْ فَزَعٍ فزع معين، فزع خاص، ولو قيل: إن القراءتين ترجعان إلى معنى واحد يعني أيّ فزع فهذا من قبيل المطلق، والمطلق فيه شمول لكنه على سبيل البدل، فيصدق على الإفراد على سبيل البدل، فأي فزع في ذلك اليوم هم آمنون منه، كما يدل عليه القرآن الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ [سورة الأنعام:82]، وهكذا لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [سورة الأنبياء:103]، أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة فصلت:40] - والله تعالى أعلم -، الفزع الذي يصيب الناس في اليوم الآخر، ولا يلزم من ذلك أن يدخل فيه نفخة الفزع فيقال: إنهم لا يفزعون منها؛ لأن هذه النفخة تكون قبل اليوم الآخر، يعنى تكون بين يديه فيحصل هذا الفزع فقيل: هي نفخة الصعق، فيحصل بعد ذلك نفخة البعث، فيكون الناس في المحشر، ويكون أهل الإيمان في حال من الأمن، والكفار في حال من الخوف - والله تعالى أعلم -، ومن أهل العلم من جعل ذلك مستثنى مما ذكره الله في هذه النفخة: نفخة الفزع.
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للإمام الشنقيطي (6/144).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للإمام الشنقيطي (6/145).
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب حسن إسلام المرء، برقم (41)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوّت به حقا أو لم يفطر العيدين والتشريق وبيان تفضيل صوم يومٍ وإفطار يوم، برقم (1159).