الإثنين 01 / ربيع الأوّل / 1447 - 25 / أغسطس 2025
وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُ ۚ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَٰخِرِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ۝ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ۝ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ۝ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة النمل:87-90].

يخبر تعالى عن هول يوم نفخة الفَزَع في الصُّور وهو كما جاء في الحديث: قرن ينفخ فيه، وفي حديث الصُّور أن إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر الله - تعالى -، فينفخ فيه أولاً نفخة الفزع، ويطولها، وذلك في آخر عمر الدنيا حين تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء، فيفزع مَنْ في السموات، ومَنْ في الأرض إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وهم الشهداء، فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون.

روى الإمام مسلم بن الحجاج عن عبد الله بن عمرو وجاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تُحدِّث أن الساعة تقوم إلى كذا وكذا؟ فقال: "سبحان الله -أو: لا إله إلا الله، أو كلمة نحوهما - لقد هممت ألا أحدث أحداً شيئاً أبداً، إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمرًا عظيمًا يخرب البيت، ويكون ويكون، ثم قال: قال رسول الله ﷺ: يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين - لا أدري أربعين يومًا، أو أربعين شهرًا، أو أربعين عامًا - فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدهم دخل في كبد جبل لدخَلَتْه عليه حتى تقبضه قال: سمعتها من رسول الله ﷺ، قال: فيبقى شرار الناس في خفة الطير، وأحلام السباع، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكرًا، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارٌّ رزقُهم، حسنٌ عيشُهم، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى لِيتًا، ورفع لِيتاً قال: وأول مَنْ يسمعه رجل يَلُوط حوض إبله قال: فَيَصْعَقُ ويَصعقُ الناس، ثم يرسل الله أو قال: ينزل الله مطرًا كأنه الطَّل أو قال: الظل - نُعمان الشاك - فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفَخُ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم، وقفوهم إنهم مسئولون، ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقال: من كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فذلك يوم يجعل الولدان شيباً، وذلك يوم يكشف عن ساق[1].

وقوله: ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى لِيتاً، ورفع لِيتاً الليت: هو صفحة العنق أي: أمال عنقه ليستمعه من السماء جيدًا.

فهذه نفخة الفزع، ثم بعد ذلك نفخة الصعق وهو الموت، ثم بعد ذلك نفخة القيام لرب العالمين وهو النشور من القبور لجميع الخلائق؛ ولهذا قال: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ قُرئ بالمد، وبغيره على الفعل، وكلٌ بمعنى واحد ودَاخِرِينَ أي: صاغرين مطيعين، لا يتخلف أحد عن أمره كما قال تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء:52]، وقال: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [سورة الروم:25]، وفي حديث الصور: أنه في النفخة الثالثة يأمر الله الأرواح فتوضع في ثقب في الصور، ثم ينفخ إسرافيل فيه بعدما تنبت الأجساد في قبورها، وأماكنها، فإذا نفخ في الصور طارت الأرواح، تتوهج أرواح المؤمنين نورًا، وأرواح الكافرين ظُلمة، فيقول الله : وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها، فتجيء الأرواح إلى أجسادها، فتدب فيها كما يَدب السم في اللديغ، ثم يقومون فينفضون التراب من قبورهم، قال الله - تعالى -: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [سورة المعارج:43]".

فقوله - تبارك وتعالى -: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ، قوله - تبارك وتعالى - هنا إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ قال الحافظ: وهم الشهداء فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وبعضهم يقول: الأنبياء، وبعضهم يقول: الملائكة، وبعضهم يقول: جبريل وميكال وإسرافيل، وبعضهم يقول: الحور العين، وبعضهم يقول: عموم المؤمنين كما قال الله - تبارك وتعالى -: وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وهذه الأقوال في الواقع لا ترجع إلى تفسير واحد بمعنى أن هذه الأقوال منها ما مبناه على أن هذه النفخة هي نفخة الصعق، يفزع الناس ويصعقون، وأن نفخة الفزع هذه هي نفخة الصعق، وأنهما نفختان لا ثالث لهما: نفخة الصعق، والنفخة الأخرى هي نفخة البعث، وهذه الأقوال التي تذكر في التفسير هي لا ترجع إلى شيء واحد، أو إلى قول واحد، يعنى لا ترجع إلى أن النفخ في الصور يكون مرتين مثلاً، أو أنه يكون ثلاث مرات، فحينما يقال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ [سورة الزمر:68]، فالذي يقول مثلاً: الحور العين يرجع إلى الصعق بمعنى أن الحور العين لا يمتنَ، ولا يرجع إلى الفزع، يعنى أن هؤلاء العلماء الذين فسروا هذا الاستثناء منهم من يرى أنهما نفختان، فحينما يقول ففزع من في السموات والأرض يعنى وصُعق إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ من الذي لا يحصل له هذا الصعق يقول: الحور العين، ويمكن أن يكون من هذا أيضاً قول من قال بأنه جبرائيل، وإسرافيل، و ميكائيل، أو أنهم الملائكة، لكن من قال بأنها نفخة الفزع، وأن النفخ في الصور يكون ثلاث مرات، فهذه نفخة الفزع، فقول من قال: إنهم عموم أهل الإيمان واضح أنه يعنى أنها نفخة الفزع؛ لأنه يحتج بقوله - تبارك وتعالى -: وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وهكذا قول من قال: إنهم الأنبياء؛ لأن الأنبياء لا يوجدون في وقت النفخ إذا قلنا: إن هذه نفخة الصعق، فيخرجون من حكمها فلا يموتون أو لا يصعقون، فهذا لا يتأتى على هذا القول، المقصود أن نعلم أن هذه الأقوال في الاستثناء لا ترجع إلى قول واحد في النفخ في الصور، والمشهور أن النفخ في الصور يكون مرتين: نفخة يصعق الناس فيها، وهذه تكون للأحياء الذين تقوم عليهم الساعة، والنفخة الثانية هي نفخة البعث، والنشور، وهذه لكل الخلائق الذين ماتوا سواء حتف أنفهم، أو ماتوا بسبب الصعق، وهذه الآية: فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ، هنا ذكر الفزع فقط ولم يذكر الصعق، ومن هنا ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن نفخ الصور يكون ثلاث مرات: الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة البعث، وهذا قول لجماعة من أهل العلم، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - مشى على هذا القول، ثم الحديث الذي ذكره حديث عبد الله بن عمرو هنا قال: ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً، ورفع ليتاً، وقال: أول من يسمعه رجلاً يلوط حوض إبله، فيصعق، إلا أصغى ليتاً، ورفع ليتاً يكون هذا الرجل أول من يسمع فيحصل له الصعق، فذكر الصعق هنا، فالذين قالوا هما نفختان قالوا: إذا سمعوه فزعوا ومن شدة الفزع يصعقون، وقد عذب الله بعض الأمم بالصيحة (صوت هائل)، إذا سمعوه طارت قلوبهم من شدة الفزع، فماتوا، فهلكوا، فذكر هنا أنهم يصعقون قال: ينزل الله مطراً كأنه الطل، أو قال: الظل، والمرجح عند أهل العلم هو الأول كأنه الطل، كما جاء في الحديث: ينزل مطر من السماء كأنه مني الرجال، فينبتون كما تنبت الأجساد[2]، كأنه الطل، ويقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ قرئ بالمد، وبغيره على الفعل، وكل بمعنى واحد، قراءة الجمهور وكل آتُوه داخرين بالمد، وقراءة حمزة وحفص والكسائي وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ، وفي قراءة غير متواترة لبعض السلف قرأ بها قتادة وكل أتاه داخرين، وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: وفي حديث الصور أنه في النفخة الثالثة يأمر الله الأرواح فتوضع في ثقب في الصور إلى آخره هذا عند الطبراني، قال في الطوال لكنه من غير إسناد عند الطبراني - والله تعالى أعلم -، فابن كثير - رحمه الله - والشوكاني وجماعة قالوا: إن النفخ في الصور يكون ثلاث مرات على ما وصف، ومن أهل العلم كالقرطبي وجماعة يقولون: هما نفختان، وإن نفخة الفزع لا تخرج عنهما فهي عائدة إليهما، بمعنى أنهم يفزعون فيحصل لهم الصعق.

  1. رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في خروج الدجال، ومكثه في الأرض، ونزول عيسى، وقتله إياه، وذهاب أهل الخير والإيمان وبقاء شرار الناس، وعبادتهم الأوثان والنفخ في الصور، وبعث من في القبور، برقم (2940).
  2. رواه الحاكم في المستدرك، برقم (8519)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (9761)، وضعفه الألباني في تحقيق شرح الطحاوية (463).