"فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [سورة القصص:29-32].
قد تقدم في تفسير الآية قبلها أن موسى قضى أتم الأجلين، وأوفاهما، وأبرَّهما، وأكملهما، وأنقاهما، وقد يستفاد هذا أيضًا من الآية الكريمة حيث قال: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ أي: الأكمل منهما - والله أعلم -".
قوله: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ قال: "أي الأكمل منهما" لمح الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هذا المعنى بأن دخول "ال" هنا كأنه يفيد الكمال، الأكمل في الوصف، تقول: هذا هو الرجل، هذا هو العمل الذي يقرب إلى الله، هذا هو الرأي، يعني الرأي الكامل فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ هنا دخلت عليه "ال" فأفادت أن ذلك هو الوصف الكامل، هكذا أراد ابن كثير - رحمه الله -.
قوله: وَسَارَ بِأَهْلِهِ: أخذ منه بعض أهل العلم أن الرجل إذا تزوج تكون امرأته تبعاً له، يسافر بها، وليس لها أن تمتنع من هذا إلا إذا كان هناك شرط اشترطته عليه ألا يسافر بها، والعلماء تكلموا على الشروط في النكاح، وتحدثوا عن مثل هذا الشرط، فالشاهد أنه إن لم يوجد شرط فإنها تكون تبعاً له تسافر معه، فهذا أخذوه من هذه الجملة، وعامة الكتب التي ألفت في أحكام القرآن هي في الآيات التي سيقت قصداً لتقرير الحكم، لهذا يقولون: تفسير خمسمائة آية مثلاً كما في تفسير مقاتل بن سليمان، فهذا غالب الكتب، ولكن من أهل العلم كالقرطبي مثلاً من يستنبط من القصص - قصص الأولين التي قصها الله في القرآن - الأحكام، وهذا صحيح، ومبناه على مسألة: شرع من قبلنا مع أن موسى ﷺ هنا ليس لدينا ما يقطع بأنه ذهب، وانتقل انتقالاً كلياً إلى مصر، أو أنه ذهب للزيارة فقط، ولو أراد أحد أن يقف عند هذا - وهو مسألة السفر -، ويستخرج من هذه الآية أنه حتى للزيارة لما سافر يزور أهله؛ أخذها معه، وهذا لا إشكال فيه: أن المرأة تكون تبعاً لزوجها، فنحن لهذا وسط بين فريقين: بين التغريبيين الذين يهدرون كرامتها اقتداءً بسادتهم من اليهود، والنصارى؛ فينسبونها إلى زوجها: صفية زغلول، صفية سعد زغلول هذا زوجها، فينسبونها إليه، وبين أن تبقى المرأة تتحكم، وتمتنع من طاعة الزوج، وتأبى الاستجابة له، فهي تطيعه في المعروف - والله أعلم -.
"قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا أي: حتى أذهب إليها، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ وذلك لأنه قد أضل الطريق، أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ أي: قطعة منها، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي: تَتَدفئون بها من البرد".
قوله: أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ "أي: قطعة منها" هذا الذي يقوله عامة أهل العلم: إن الجذوة جمرة، وابن جرير وأبو عبيدة معمر بن المثنى يقولان: إن "الجذوة" هي قطعة من الخشب الغليظ في طرفه، يعني النار كامنة ليست مشتعلة، يعني في طرفه شيء من الجمر جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ جذوة قطعة غليظة من الحطب فيها نار عند ابن جرير وأبي عبيدة أو جمر، ويقال: جَذوة، وجُذوة، وجِذوة.