"ثم قال الله له: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي: إذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق؛ ولهذا قال: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي: من غير برص.
وقوله: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ: قال مجاهد: "من الفزع"، وقال قتادة: "من الرعب"".
قوله: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني إذا أدخل يده في جيبه تخرج بيضاء من غير سوء، بيضاء يخالف لونها لون الجلد بحيث تكون شديدة البياض، ناصعة إلى آخره من غير برص، وهذه آية، والآية الأخرى مغايرة لهذه، بعض أهل العلم جعلها كأنها آية واحدة، وهذه آية وهذه آية، هذه في اللون، وهذه لها أثر عليه هو قد لا يشاهده الآخرون وهو قوله: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ الجناح هو اليد، وبعضهم يقول: اضمم إليك عضدك، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ يعني أنه يضم إليه عضده، وبعضهم يقول: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ أي: يدك المبسوطة من الرهب فإذا ضمها إليه كالخائف، ووضعها على صدره، أو على قلبه مثلاً فإن ذلك يبعث الطمأنينة والأمن في نفسه، وترتفع عنه المخاوف، وهذه معجزة وآية لموسى - عليه الصلاة والسلام - يرجع أثرها إليه؛ ليثبت أمام فرعون الذي كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24] فالوقوف بين يديه ليس بالأمر السهل، فقد تأخذ الإنسان المخاوف، ويتفرق قلبه، ولا يستطيع أن يتكلم بشيء، وإذا قرأتم في التاريخ تجدون في تراجم بعض العلماء، وبعض القراء، وبعض الكبار؛ حينما يؤخذ ويوضع بين يدي الخليفة مثلاً أو نحو ذلك تجد أن بعضهم يقول: انعقدت ألسنتنا، فلم نستطع أن نتكلم بشيء، فكيف إذا كان الوقوف بين يدي فرعون، وبعضهم كالفراء يقول: إن المراد بجناحه يعني العصا وهذا بعيد، وبعضهم يقول: إن الرهب هو الكم، وإن هذا في بعض لغة العرب وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ يعني من الكم، وهذا فيه بُعد - والله تعالى أعلم -، والمقصود وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ الجناح هو اليد، فيضمها إليه، ويحصل له بذلك الطمأنينة، وتزول عنه المخاوف، هذا ظاهره - والله تعالى أعلم -، وقوله: مِنَ الرَّهْبِ فيه ثلاث قراءات متواترة: الرَّهب، والرُّهب، والرِّهب، والمعنى واحد، معنى هذه القراءات واحد - والله أعلم -.
قوله: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إلى فرعون يعني ضم الجناح إليه، وهذه آية لفرعون ليست ظاهرة، إنما التي تكون ظاهرة، ومعجزة؛ يشاهدها فرعون، وغير فرعون هي ما ذكر من العصا، وإدخال اليد في الجيب فتخرج بيضاء من غير سوء.
هذه آية لموسى - عليه الصلاة والسلام -، وأمر خارق للعادة، فالاقتداء بمثل هذه الخوارق لا يتأتى، ولكن جرت عادة الناس أنهم إذا خافوا وضعوا أيديهم، وضموها، يضم يده إلى قلبه مثلاً أو نحو ذلك، فيحصل له بذلك نوع تسكين للخوف، وهذا أمر لا ينكر، فهناك أشياء، ومزاولات، وتصرفات لها آثار في النفس، الغضبان مثلاً قد لا يستطيع أن يتمالك، وهو قائم على قدميه، فقد تغلبه نفسه، فيتحرك، ويذهب، ويقتل، فأُمر بأنه إن كان قائماً يجلس، وإن كان جالساً يضطجع، فهذا يحصل له به نوع سكون فيهدأ، ولهذا الإنسان المرتبك، أو الخائف، أو المضطرب أو نحو ذلك يقال له: اجلس من أجل أن يهدأ قليلاً، وكذلك الوضوء مع الغضب، فهو مناسب له لأنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم، فإذا توضأ كان ذلك أدعى للسكون، وزوال الغضب عنه، وقل مثل ذلك فيما يتعلق بالخوف حينما يضطرب الإنسان، فبعض الناس يقول: إذا قمتُ ألقي كلمة، أو خطبة أو نحو ذلك لا تحملني قدماي من الاضطراب، وبعضهم لربما سقط من المنبر، فمثل هذا في خطبة الجمعة يتمسك بالمنبر، وفي غير خطبة الجمعة يمكن أن يلقي كلمة، أو درساً؛ وهو جالس، فإن القيام، والوقوف أثناء الكلام قد لا يتيسر إلا لمن اعتاده، والذي يتعلم يقال له: تكلم وأنت جالس حتى لا تنشغل بغير ما تتكلم به، وقد رأيت رجلاً يلقي كلمة؛ ثم قطعها في أولها، وقال: يا جماعة أنا كنت أسمع أن الإنسان تضطرب ركبه، وما كنت أتصور حتى كان هذا اليوم، فأمسك بركبتيه، واعتذر من الناس، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فهذا يفعله الناس، لكن لا يقال اقتداءً بموسى ﷺ وإن كان له أثر في سكون النفس إلى حد ما - والله أعلم -، كما يقال: إن قراءة آيات السكينة لها أثر بالنسبة للخائف.