"وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة القصص:43] يخبر تعالى عما أنعم به على عبده، ورسوله موسى الكليم - عليه من ربه الصلاة والتسليم - من إنزال التوراة عليه بعدما أهلك فرعون وملأه.
وقوله: مِنْ بَعْد ِمَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى يعني: أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمة بعامة، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين كما قال: وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً [سورة الحاقة:9-10]".
ولهذا فإن بعض المفسرين يفسر قوله - تبارك وتعالى - هنا: مِنْ بَعْد ِمَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بأن القرون الأولى هي الأمم التي أهلكها الله كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وبعضهم يلحق بهم فرعون، يقول: وفرعون ويقصد بذلك ما أشار إليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، واستشهد له بهذه الآية: وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً [سورة الحاقة:9-10]، هذا مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى فكان آخر الإهلاك المستأصل هو إهلاك فرعون، ثم بعد ذلك شُرع لهم الجهاد، فكانوا يجاهدون أعداء الله ، وكانت العقوبات حينما تنزل تنزل بصورة جزئية في الغالب، بحيث لا يكون عذاباً مستأصلاً هذا في الغالب، وهذا لا ينافي أن يوجد في بعض الأمة مسخ، أو خسف، ولكن لا يأخذهم بعذاب مستأصل عام كما كان يحصل للأمم السابقة، أغرق الله الأرض، ومن عليها، وهؤلاء أخذتهم الصيحة بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [سورة الحاقة:6]، وما أشبه ذلك كالرجفة، هذا مقصود من قال بهذا من أهل العلم، وبعضهم لا يذكر فرعون معهم، وكأنه فهم من قوله: مِنْ بَعْد ِمَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى يعني القرون المتقدمة قبل قرن موسى ﷺ، وفرعون من قرن موسى - عليه الصلاة والسلام - بَعْد ِمَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى، فمن نظر إلى أن المعنى هو الهلاك المستأصل أدخل بهم فرعون، ومن لاحظ القرون الأولى يعني المتقدمة السالفة المتقدمة على موسى - عليه الصلاة والسلام - لم يُدخل فرعون معهم، وعلى كل حال فرعون وقومه كانوا ممن أهلكهم الله بالهلاك المستأصل، وهذا يدل عليه القرآن في مواضع أخرى أنه ما نزلت عليه التوراة حينما خاطب فرعون، ودعاه إلى الإيمان؛ وهذا معروف، وموسى ﷺ حصل له ذلك بعدُ حينما جاء إلى الميعاد، وكلمه الله في القصة المعروفة، وأن قومه عبدوا العجل، وقد مضى ذلك في سورة الأعراف.
بعض أهل العلم يقول في قوله - تبارك وتعالى -: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْد ِمَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ: آتيناه الكتاب لأجل أن يتبصر به الناس، فيكون قوله: بَصَائِرَ لِلنَّاسِ مفعولاً لأجله، آتيناه الكتاب ليتبصر به الناس، وبعضهم يفسره بأن الله آتاه الكتاب حال كون الكتاب بصائر للناس، حال كونه بصائر، فيكون بصائر حال يبصرون به الحق.