"قال الله - تعالى -: أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا أي: هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول، ثم الثاني، ولهذا قال: بِمَا صَبَرُوا أي: على اتباع الحق، فإن تجشم مثل هذا شديد على النفوس، وقد ورد في الصحيح من حديث عامر الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله، وحق مواليه، ورجل كانت له أمة، فأدبها، فأحسن تأديبها، ثم أعتقها فتزوجها[1].
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: إني لتحت راحلة رسول الله ﷺ يوم الفتح، فقال قولاً حسناً جميلاً، وقال فيما قال: من أسلم من أهل الكتابيْن فله أجره مرتين، وله ما لنا، وعليه ما علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله ما لنا، وعليه ما علينا[2]".
هذه الآيات جاء في أسباب النزول أنها نازلة في عشرة من اليهود أتوا النبي ﷺ وآمنوا به، فعيرهم قومهم، وعابوهم، واستهزؤوا بهم، فنزلت هذه الآيات، وأما ما ذكره هنا عن سعيد بن جبير - رحمه الله - من أنها نزلت في سبعين من القسيسين فهذا من قبيل المرسل، وهو نوع من الضعيف، وقوله - تبارك وتعالى -: أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا يعني: يضاعف لهم الأجر، فإيمانهم بكتابهم الأول، وإيمانهم بالنبي ﷺ، وما يحتف بذلك من الصبر العظيم الذي يتطلبه هذا المقام، فكان ذلك سبباً لمضاعفة الأجر، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال: بِمَا صَبَرُوا "أي: علي اتباع الحق، فإن تجشم مثل هذا شديد علي النفوس"؛ وذلك من جهة أن مفارقة المألوفات، وما نشأ عليه الإنسان، وتلقفه، وتلقاه؛ أمر يشق عليه، ومفارقة الدين أعظم من مفارقة الأهل، والوطن، والعشيرة، بالإضافة إلى أن مخالفة الناس لا شك أنها شاقة، وتتطلب صبراً عظيماً إضافة إلى أمور أخرى لا تخفى على متأمل، والشيخ عبد الرحمن المعلمي - رحمه الله - في كتابه "التنكيل" في القسم المتعلق بالعقائد - الذي أفرد بعنوان: "القائد إلى تصحيح العقائد" - ذكر كلاماً نفيساً في هذا الموضوع خلاصته: يعني فيما يتعلق بالأهواء التي تكون في النفوس، ومفارقة الإنسان ما كان عليه، أبو طالب أبى أن يؤمن خشي المسبّة، والعيب، وأن يقال: ترك دين الآباء، والأجداد، فيقول: إن مثل هذا له تعلق بهوى النفوس، وذلك أنه من جهةٍ يرى أن اتباع النبي ﷺ تغيير للدين، وذلك يعني ضمناً الاعتراف بأنه كان على باطل، وهذا أمر شاق، أضف إلى ذلك أن هذا يلزم منه أن يكون ما مضى من أيامه، وحياته، وسنيّ عمره؛ على باطل، وأن ما كان يدعو إليه، ويشتغل بنصرته، ويبذل من أجله كل مستطاع؛ أن ذلك كان في نصرة الباطل، وأن ذلك يلزم منه أن قومه، وأهله، وعشيرته؛ أنهم على باطل، فهذه لوازم؛ فإذا وجد مع هذا هوًى آخر كأن يحسد هذا الذي بيَّن له الحق فإن ذلك يمنعه أيضاً كما قال الله : حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ اليهود، فهو حينما يذعن له، ويقر بما جاء به؛ فهذا إقرار له بالفضل، وهذا لا يحصل لكل النفوس، ولا تقوى عليه النفوس التي لم تروض، فيصعب عليها غاية الصعوبة؛ لأنه يعتقد أن هذا أفضل منه، بل إن ذلك سيرجعه إلى الوراء كما يقال إلى المربع الأول؛ لأن الهوى من جهةٍ قد يحركه باعتبار أن له منزلة ومكانة عند قومه، أو أتباعاً، فإذا أذعن وآمن بالحق طار ذلك، وصار كالهباء، فيرجع إلى مقوماته الحقيقية مبتدئ مسلم جديد، كل الأوهام السابقة كاهن، قسيس، راهب إلى آخره كل ذلك ذهب، أتباع، أموال تعطى له، ولايات؛ كل هذه ذهبت، رجع إلى حجمه الطبيعي، لا أتباع، ولا مناصب، ولا أموال، وإنما منزلته بقدر إيمانه، وبقدر ما يحسنه، فيحتاج أن يتفقه في الدين الجديد، ويتعلم، وأن يروض نفسه على طاعة الله، وطاعة رسول الله ﷺ، وهذه أمور شاقة، وسيبدأ طريقاً جديداً الآن، وطويلاً، فهو يقول: بعضهم أو منهم من يكون له في الباطل شهرة، ومعيشة؛ فتذهب هذه الشهرة، وتذهب هذه المعيشة التي كانت في الباطل، فالحاصل أن هذه من ألوان المشقات التي تحصل لمن أراد أن يتبع الحق، ويترك ما كان عليه من الباطل، وكلامه جيد حري بالمراجعة، والنظر، والتأمل، وكان مما قال: يكون الإنسان أحياناً يقرر مسألة، ويحررها تقريراً يعجبه، ويظن أنه قد أحسن سبكها، وحبكها، والاحتجاج لها، ثم بعد ذلك يبدو له أمر يقدح في بعض ما قال، فيشق ذلك عليه، فكيف لو كان هذا الوارد أو القادح جاء من غيره؟ كيف لو كان قد أعلن هذا القول، ثم بعد ذلك جاء الاعتراض من غيره؟ كيف لو كان المعترض ممن يكرهه؟ فهذا صعب علي نفس الإنسان، فهؤلاء من أهل الكتاب مثلاً الأمر بالنسبة إليهم أصعب مما كان عليه أهل الإشراك؛ لأن أهل الكتاب قد تشبعوا من كونهم أهل كتاب، وأهل علم، وأهل معرفة في الدين، والمشركون إنما كانوا يتطفلون عليهم بتلمس الأسئلة، والمعارضات، والمطالبات التي يطالبون بها النبي ﷺ، ودائماً المقدمة: أنتم أهل كتاب أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل، ثم بعد ذلك يذهب هذا جميعاً، ويقرون لرجل من غيرهم رجل من العرب، وهم يحتقرون العرب، ويرون أنهم لا شيء، أُمة جاهلة أمية، أهل إشراك، عبدة أوثان، ويذهب كل هذا التراث الضخم، كل ذلك، فيتبعون هذا الرجل الأمي، وهم يعتقدون أنهم صفوة الله من خلقه، هذا أمر شاق على النفوس، وكلما كانت المشقة في اتباع الحق أكثر من غير أن تتطلب لها قصداً كان الأجر أعظم، ومن هنا كان لهؤلاء الأجر مرتين، ولكن ذلك لا يختص بهم فهنا قول النبي ﷺ: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين وذكر الرجل من أهل الكتاب وقال: وعبد مملوك أدى حق الله، وحق مواليه، ورجل كان له أمة فأدبها إلى آخره، بقي غير هؤلاء، فإن ذكر الثلاثة لا يدل على الحصر، وقد دلت الأدلة على أن غيرهم يؤتون أجرهم مرتين مثل أزواج النبي ﷺ: وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [سورة الأحزاب:31]، وكما أنه ذكر في المقابل: مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [سورة الأحزاب:30]، والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق فله أجران[3]، وهناك أعمال أخرى.
قوله: وَيَدْرَءُونَ يعنى يدفعون، بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ الحافظ - رحمه الله - فسرها بأن ذلك يتصل بالأخلاق، فلا يقابلون الإساءة بمثلها، وهذا يشهد له ما جاء في كتاب الله - تبارك وتعالى - كقوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [سورة المؤمنون:96]، وكذلك وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة فصلت:34]، وما جاء من الحث على العفو، والصبر، والصفح وما إلى ذلك، ومن أهل العلم من يقول: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أن المقصود بِالْحَسَنَةِ هنا الطاعة، والسَّيِّئَةَ المعصية كما قال النبي ﷺ: وأتبع السيئة الحسنة تمحها[4]، فهم يدفعون السيئة بالحسنة كما قال الله - تبارك وتعالى -: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [سورة هود:114]، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -: أن المقصود بـالسَّيِّئَةَ المعصية، وبِالْحَسَنَةِ الطاعة، وهذا تحتمله الآية، وبعضهم يقول: السَّيِّئَةَ المعصية، وبِالْحَسَنَةِ التوبة، وهذا أخص مما قاله ابن جرير، ومن سبقه من السلف ، أخص يعني أولئك يقولون: "الحسنة" الطاعة، فيدخل فيه التوبة بلا شك، وهؤلاء يخصون ذلك بالتوبة، والاستغفار من المعصية، وبعضهم: يخصص السيئة، والحسنة؛ بنوع من الطاعة، والمعصية، فيقول: إن السيئة هي الشرك، والحسنة هي التوحيد والإيمان، وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ الإشراك، وهذا إذا قلنا بأن الحسنة هي الطاعة، والسيئة هي المعصية؛ فيصلح أن يكون هذا، وما قبله أعني أن السَّيِّئَةَ المعصية، والتوبة هي الحسنة، التوبة، والاستغفار أن يكون ذلك من قبيل التفسير بالمثال، وإذا قررنا هذا المعني في الأصل، وقلنا الحسنة هي الطاعة، والسيئة هي المعصية؛ فيكون ما بعده من قبيل التفسير بالمثال كقول من يقول: إن الحسنة هي التوبة، والاستغفار، والسيئة هي المعصية، أو الحسنة هي التوحيد، والسيئة هي الشرك، هذا لون مما يدخل تحت الحسنة، والسيئة فذكر أعظمها، فتصير الأقوال بعد ذلك منحصرة في قولين:
الأول: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ يعني السيئة هي المعاملة السيئة، والإساءة التي تصدر تجاههم من قبل الآخرين، والحسنة هي الإحسان إلى هؤلاء الناس، والعفو عنهم في مقابل إساءتهم ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
والقول الثاني: أن المقصود الطاعة، والمعصية، ولعل الأول أقرب - والله تعالى أعلم -؛ لأن شواهد القرآن تدل على الغالب في هذا الباب المتكرر، وهو ما ذكرت من الحث على مقابلة السيئة بالحسنة، والمسيء بالإحسان، فالآيات التي ذكرها الله في هذا السياق أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ، هذه تشبه الآيات التي ذكرها الله في الأخلاق مثل ما جاء في سورة الفرقان: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [سورة الفرقان:63]، وكذلك وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [سورة الفرقان:72] فهنا ذكر مثل هذه الأوصاف - والله تعالى أعلم -.
إذا كانت "من" تبعيضية فيعني أنهم لا ينفقون كل ما رزقهم الله ، وإنما ينفقون منه، ويحتمل أن تكون بيانية، فإذا قيل: إنها تبعيضية كما في سورة البقرة وفي غيرها مواضع كثيرة في كتاب الله : وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فأهل العلم يتكلمون في هذه المسألة عند هذه الآيات في مسألة الإنفاق هل يشرع للإنسان أن ينفق ماله كله، أو أنه ينفق بعضه؟ وهنا قال: وَمِمَّا فمدحم بهذا أنهم ينفقون "مما" إذا قلنا إنها تبعيضية، لم يمدحهم بإنفاق جميع المال، والرجل الذي جاء للنبي ﷺ بماله قطعة من الذهب يريد أن يتصدق بها، فأعرض عنه، ثم تعرض للنبي ﷺ نفسه، ثم أعرض عنه، إلى أن أخذها كالمغضب أو نحو ذلك، وعلل ذلك بأن الرجل يأتي بماله كله ثم يتكفف الناس، وفي المقابل قبل النبي ﷺ من أبي بكر أن يتصدق بماله ثم قال: ما تركتَ لأهلك؟، قال: تركت لهم الله، ورسوله ﷺ[5]، وقَبِلَ من عمر أن يأتي بنصف ماله[6]، ولما سأله سعد في مرضه الذي كان يظن أن يموت فيه قال له النبي ﷺ: الثلث والثلث كثير[7]، وأحسن ما قيل في هذا - والله تعالى أعلم - هو ما ذكره الشاطبي - رحمه الله - في "الموافقات" من أن ذلك يختلف باختلاف الناس، فمن كان عنده من اليقين كما عند أبي بكر ونحوه ذلك بحيث إنه إذا أنفق ماله ثقته بالله عظيمة، ولا ينظر إلى الناس، ولا يتطلع إلى ما في أيديهم، ولا يلتفت قلبه لهم؛ فهذا لا إشكال أن ينفق ماله، ومن كان دون ذلك فلا يحسن منه، و إنما ينفق بعضه - والله تعالى أعلم -.
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من أسلم من أهل الكتابين، برقم (2849)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة، برقم (154).
- رواه أحمد في المسند، برقم (22234)، وقال محققوه: صحيح وهذا إسناد ضعيف.
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه، برقم (798).
- رواه الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في معاشرة الناس، برقم (1987)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند، برقم (21354)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين غير ميمون بن أبي شبيب، فقد روى له مسلم في المقدمة، وهو صدوق حسن الحديث، لكنه لم يسمع من أبي ذر كما قال أبو حاتم وغيره، ثم قد اختلف على سفيان - وهو الثوري - في إسناده كما يأتي"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (97).
- رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب الرخصة في ذلك، برقم (1678)، والترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله ﷺ، باب في مناقب أبي بكر وعمر - ا - كليهما، برقم (3675)، وقال الألباني: حسن، وهو على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في صحيح أبي داود برقم (1472).
- هو الحديث السابق.
- رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، برقم (2591)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم (1628).