الإثنين 14 / ذو القعدة / 1446 - 12 / مايو 2025
وَإِذَا سَمِعُوا۟ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُوا۟ عَنْهُ وَقَالُوا۟ لَنَآ أَعْمَٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَٰلُكُمْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِى ٱلْجَٰهِلِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ أي لا يخالطون أهله، ولا يعاشرونهم، بل كما قال تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً، وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ أي إذا سفه عليهم سفيه، وكلمهم بما لا يليق بهم الجواب عنه؛ أعرضوا عنه، ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح، ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب، ولهذا قال عنهم: إنهم قالوا: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ أي لا نريد طريق الجاهلين، ولا نحبها".

قوله - تبارك وتعالى - هنا: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ بعدما قال: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فإذا فُسرت السيئة بإساءة الناس إليهم كما قال: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ يعني بالسفه، ما هو إذا خاطبوهم وقالوا: يا فلان أين المكان الفلاني؟ أو سألوهم عن شيء أو نحو ذلك قالوا لهم: سَلامًا؛ ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود إذا خاطبوهم بالسفه بما لا يليق من الكلام قالوا لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ، وقوله - تبارك وتعالى - هنا: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ يعني اللغو الباطل، ويدخل فيه دخولاً أولياً ما فسرت الآية قبله به، وهو قوله: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ يعني يقابلون إساءة المسيء بالإحسان وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ سمعوا كلاماً لا يليق وُجه إليهم؛ أعرضوا عنه كأنهم لم يسمعوه:

ولقد أمرُّ على السفيه يسبُّني فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يعنيني

وبعضهم لما سبه سفيه وشتمه لم يرد عليه فقال: "إياك أعني"، أي بهذا الشتم والسب فقال: "وعنك أعرض"، أو جاء ذلك بأسلوب الحصر يعني ما أعني غيرك بهذا الكلام، قال: وأنا ما أعرض عن غيرك، فهذه أخلاق عالية لأنك لا تستطيع أن تؤدب الناس، وأن تربي كل أحد، فهؤلاء السفهاء الذين قد يحتف الإنسان ببعضهم حينما تعرض عنه يمر، وحينما تريد أن تقف معه لترد عليه، أو تؤدبه، أو لتعلمه أو نحو ذلك فإنك قد لا تسلم منه، ولا من شره، هؤلاء مثل السباع تجوب، فإذا تركته سلمت منه، ولكن إذا أرت أن تؤدب كل أحد من هؤلاء الذين تراهم في الطريق، وتراهم في كل مكان، وفي الأسواق، وقد تلقوا تربية مختلفة، ويعيشون في بيئة أخرى لا يتورع من كلام، ولا من سباب، ولا من فعال قبيحة؛ هي تربيته هكذا، ويرى أن هذا من الرجولة، والشجاعة، والمروءة، وأن هذه هي المكارم، فمثل هذا لا تستطيع أن تقف معه، وإنما تُعرض لأنك لن تستطيع إذا دخلت الوحل أن تسلم من لوثته لا تستطيع أبداً، فهنا قال: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ أي لا يخالطون أهله، ولا يعاشرونهم، بل كما قال تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً لا يخالطون أهله، ولا يعاشرونهم يعنى هم أَعْرَضُوا عَنْهُ بمعنى لا يقف عند هذا اللغو، ويبتعد، وينأى بنفسه، ولا يجلس في أماكن يقال فيها الباطل، ويُستهزأ فيها بآيات الله ، ويزعم بعد ذلك أنه ينكرها بقلبه، هذا لا يجوز، وإنما يعرض عن هذا كله، فهذا اللغو يدخل فيه إساءة المسيء، وما يصدر منه من باطل، وكلام قبيح، ويدخل فيه ما يصدق عليه أنه لغو من ألوان الباطل فإنه لا يعاشر أهله، ولا يجالسهم، ولا يخالطهم حال لغوهم، يتنزه عن هذا، فهو من جهةٍ يبتعد عن إقرار المنكر بالجلوس مع أهله هذا من جهة، ومن جهة أخرى هو تنزه، وترفع عن الباطل، وكما قيل الطبع لص، الطبع سراق، ولا يستطيع أحد أن يقول: أنا لا أتأثر، فإن الإنسان قد يكون فيه شيء من الأخلاق، والدماثة أو الحياء، ثم ما يلبث بعد معاشرة بعض أهل الفجور أن يكون مجترئاً لا يتورع، ولا يتنزه من شيء، تتغير طريقته في الكلام، وأسلوبه في الخطاب باعتبار من يعاشرهم، وقد يحصل هذا أيضاً بلون آخر من الجراءة، قد تصدر من بعض الخيرين - بعض الأخيار - فإن الناس يتفاوتون في هذا، يتفاوتون في ما هم عليه من ضبط اللسان، فمن الناس من يتوسع في الكلام لربما يخوض في أمور يستحى من ذكرها في المجالس ونحو هذا، فيحصل توسع فما يلبث بعد مخالطتهم أن يهون عليه ذلك حتى يصير ذلك ديدناً له، وقد يكون ذلك بلون من الصلف، والشدة في الكلام، وتجد هذا أيضاً للأسف الشديد حتى في القراءة، فقد يقرأ لعالم أو لبعض طلاب العلم في أسلوبه شيء من الصلف، والشدة على المخالفين؛ فتجد بعض العبارات غير لائقة، بل حتى العناوين، عالم يكتب رداً على عالم آخر بكتاب يستحي الإنسان من ذكر اسمه "العروج بالفروج" هذا عنوان كتاب لعالم، عالم!! في البداية أراد أن يتقرب إليه لعله يحصل على بعض الصلات؛ لأن ذاك عنده مال وثراء، متزوج من امرأة ثرية جداً، فلعله يحصل منه على بعض الصلات، وهذا الراغب صاحب بدعة على عقيدة ماتريدية، وذاك عقيدته عقيدة سلفية، فهو يريد أن يتقرب إليه، لعله يحصل له بعض الصلات، ذاك ما كان يردُّ عليه أصلاً، ولا علي خطاباته أبداً؛ فغاظه، فتسلط عليه بالردود، وكان أحد الكتب التي رد بها عليه بهذا العنوان "العروج بالفروج"، وهذا الكتاب أستحى أن يكون معروضاً في مكتبتي، فكيف استطاع أن يكتب هذا العنوان؟، وكتاب آخر بعنوان "الكلب العاوي" الرد على فلان كذا، الرد على عالم معاصر لا نتفق معه، ونختلف معه في أشياء كثيرة؛ لكن ما وصلت الأمور إلى هذا الحد، والذي يقرأ مثل هذا يتأثر لا بد، فالأسلوب مؤثر، والذي يقرأ مثلاً للشاطبي كثيراً يظهر هذا في أسلوبه، قد يكون يصعب على المبتدئين فهم ما يقول، فأسلوب الشاطبي رفيع، لا يفهمه كل أحد، والذي يقرأ ويكثر من القراءة لشيخ الإسلام يظهر في أسلوبه أيضاً لا يفهمه كل أحد، والذي يقرأ في كتب الأدب يوجد في كلامه بعض العذوبة، والذي يقرأ في كتب الجفاء يظهر هذا في أسلوبه؛ لأنه قد يدخل عليه ذلك من باب الاقتداء، ما دام قالها فلان ما المانع أن نقولها، ولا إشكال؟، فهذه مشكلة في القراءة، وعلى الإنسان أن ينتبه، ولهذا قد يقرأ كثيراً لبعض العلماء مثل ابن حزم - رحمه الله - بطريقة مناقشة للأقوال والمخالفين فيتأثر بهذا، فإذا تكلم عن مالك وأحمد، والشافعي - رحمهم الله - وأمثال هؤلاء تكلم بأسلوب لا يليق أبداً، ولهذا لا يحسن بطالب العلم في بداياته أن يقرأ مثل هذه الكتب؛ لأنه سيتأثر ولا بد بمثل هذه الأشياء، فإذا ظهر له ريش، وبدأ يحقق أو يؤلف تجد هذا في التعليقات، وفي العبارات العنيفة التي توجه للعلماء، ونحن في غنى عن هذا كله، كلمة بدل كلمة، وكلام حسن، وكلام طيب يصل به المقصود يفهم به المراد، ولا حاجة إلى الكلمة الصعبة، والكلمة الثقيلة مع الناس جميعاً، وقال هنا: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [سورة الفرقان:72]، وقال: وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ، والسلام هنا ليس المقصود به سلام التحية، فربما كان يجلس معه في المجلس نفسه ويقول له: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وإنما المقصود به سلام المتاركة، فكأنه يقول: سلام عليك لا أجاريك فيما أنت فيه، وأمنة لك منى لن تسمع منى شيئاً تكرهه، كما قال أحد السلف لما قال له رجل: "والله لئن قلتَ كلمة لأردن عليك بعشر، فقال له: ولئن قلتَ كلمة - أو قال: إن قلتَ كلمة - فلن تسمع منى نصف كلمة" أو نحو ذلك، يعني تقول: أرد عليك بعشرة؟، اطمئن أنا لن أرد عليك بنصف كلمة، والله المستعان.

ثم إنه قد يرد سؤال فهنا قال: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ بالرفع، وهناك قال: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [سورة الفرقان:63] بالنصب، ما وجه ذلك في موضع بالرفع، وموضع بالنصب؟ وأدق من هذا أن يقال: إن هنا ما ذكره الله على سبيل الحكاية، يعني الله - تبارك وتعالى - ذكر أوصافهم فقال: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ يحكي أخلاقهم، وأوصافهم حكاية، يصفهم بهذه الأوصاف، وهناك وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وهو تعليم منه لأهل الإيمان كيف تكون أخلاقهم، وحالهم، فهذا في مقام التعليم، يعلمهم كيف يقولون، وكيف يجيبون من أساء إليهم، وهنا في مقام الخبر وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ فهذا الفرق بين المقامين.