الإثنين 14 / ذو القعدة / 1446 - 12 / مايو 2025
إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ۝ وَقَالُوَاْ إِن نّتّبِعِ الْهُدَىَ مَعَكَ نُتَخَطّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكّن لّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىَ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رّزْقاً مّن لّدُنّا وَلَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة القصص:56-57]، يقول تعالى لرسوله ﷺ إنك يا محمد لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ أي ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وقال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وهذه الآية أخص من هذا كله، فإنه قال: إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي: هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله ﷺ، وقد كان يحوطه، وينصره، ويقوم في صفه، ويحبه حباً شديداً؛ طبعياً لا شرعياً، فلما حضرته الوفاة، وحان أجله، دعاه رسول الله ﷺ إلى الإيمان، والدخول في الإسلام؛ فسبق القدر فيه، واختطف من يده، فاستمر على ما كان عليه من الكفر، ولله الحكمة التامة، قال الزهري: حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه، وهو المسيب بن حزن المخزومي قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ﷺ، فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله ﷺ: يا عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله ﷺ يعرضها عليه، ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله ﷺ: والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى، وأنزل في أبي طالب: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ أخرجاه من حديث الزهري[1]".

وهذا نقل عليه الإجماعَ بعضُ أهل العلم كالزجاج وغيره أنها نازلة في أبي طالب، ولاشك أن المعنى والعبرة بعموم اللفظ، والمعنى؛ لا بخصوص السبب، فهذه الهداية المقصود بها الهداية التوفيقية، إِنَّكَ لا تَهْدِي لا توفق لا تدخل الهداية في القلوب، وأما هداية الإرشاد فهي المثبتة للنبي ﷺ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الشورى:52]، والمراد بقوله - تبارك وتعالى - هنا: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ يعني: من أحببته، وقوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ يعني أنك لا تهدي من أحببت هدايته، فقد يحب هداية فلان ولكنه لا يحبه، قد يحب هدايته لما فيه من البلاء، والقوة، والعزم، والجد، والعقل وما إلى ذلك، وهو لا يحبه، قد يكون بينهما خصومة، وعداوة؛ فهذا غير المعنى الأول إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وإذا نظرنا إلى سبب النزول فإنه قد اجتمع فيه الأمران النبي ﷺ كان يحب أبا طالب، وكان يحب هدايته أيضاً، وهذه المحبة إذا قلنا: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ يعني أحببته فلا يشكل عليها ما يتعلق به من الولاء والبراء، ومحبة الكافر، فهذه المحبة الطبيعية التي تكون بين الناس كمحبة الرجل لولده، الوالد لولده، ومحبة الولد لوالده، ومحبة الرجل لزوجته، وما إلى ذلك، ويتضح هذا بأن الله أباح التزوج من الكتابية مثلاً وهي كافرة، وإذا تزوجها فغالباً أنه سيحبها، فهذه المحبة غير الموالاة، فالموالاة قدر زائد على المحبة، فالكفار بجميع أصنافهم لا تجوز موالاتهم، ولا مودتهم لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ... [سورة المجادلة:22] فذاك في الموادة وهي من الموالاة، وهناك فرق بين هذا وهذا - والله تعالى أعلم -.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة القصص، برقم (4494)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة ونسخ جواز الاستغفار للمشركين والدليل على أن من مات على الشرك فهو في أصحاب الجحيم ولا ينقذه من ذلك شيء من الوسائل، برقم (24).