"وقوله: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا: يقول تعالى مخبرًا عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى حيث قالوا لرسول الله ﷺ: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أي: نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا مَنْ حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى، والمحاربة، ويتخطفونا أينما كنا فقال الله - تعالى - مجيباً لهم: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يعني: هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل؛ لأن الله جعلهم في بلد أمين، وحَرَمٍ معظّم، آمن منذ وُضع، فكيف يكون هذا الحرم آمناً في حال كفرهم، وشركهم، ولا يكون آمنًا لهم وقد أسلموا، وتابعوا الحق؟
وقوله: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ أي: من سائر الثمار مما حوله من الطائف وغيره، وكذلك المتاجر، والأمتعة رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا أي: من عندنا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ فلهذا قالوا ما قالوا".
قوله - تبارك وتعالى -: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا التخطف هو الانتزاع بسرعة يعني أن الناس سيرمون معاً قوساً واحدة، ويعادوننا، ويحاربوننا، ونكون هدفاً لهم نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا فالله - تبارك وتعالى - رد عليهم بهذا الرد البليغ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا، وهذا لا يختص بهؤلاء الذين خاطبهم الله بذلك، وإنما هو في كل زمان أن الله - تبارك وتعالى - جعل حرماً آمناً، ويتخطف الناس من حوله؟!، فاتباع الحق لا يزيد أهله إلا أمناً، وقوة، وثباتاً، والله - تبارك وتعالى - يدفع عنهم كيد عدوهم لا كما قد يتوهمه من قلَّ يقينه، وضعفت بصيرته أن اتباع الحق سيؤلب عليهم الأعداء فيتخطفون من أرضهم، فهذه القضية رد عليها القرآن، والأمور بيد الله - تبارك وتعالى -، ونواصي الخلق بيده، وهم تحت قبضته، فاتباع شرعه، وطاعته، وطاعة رسوله ﷺ هي سبب للتمكين، وليست سبباً للتخطف، والهزيمة، فالله لا يخذل أولياءه، وعدهم بالنصر والظفر، والتمكين في الأرض، ووعْده حق لا يتخلف، ولكن ذلك قد يتخلف لوجود مانع، أو لفقد شرط - والله المستعان -، وقوله - تبارك وتعالى -: وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا، ثم قال: أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ هذا يقال له: العموم الاستعمالي كما يسميه الشاطبي - رحمه الله -، يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ وهذا كقوله: وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ [سورة النمل:23]، و"كل" تعد من أقوى صيغ العموم، بل هي أقوى صيغ العموم مع أن ملكة سبأ ما كان عندها كل ما في الدنيا، وأقرب ذلك أنها لم تؤتَ ملك سليمان - عليه الصلاة والسلام -، ولكن العرب تفهم من مثل هذا أنه إنما يتوجه لما يصلح لمثله، فأُوتيت من كل شيء مما يصلح لمثلها، ما يكون به إقامة ملكها، وهنا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ مما جرت العادة به، مما حول مكة من الطائف ونحوها، فالحرم جعله الله في أرض ليست محلاً للزرع، وإنما في وادٍ غير ذي زرع، وفي هذا حكمة ربما يتصل ذلك أو بعضه بالتجرد لله بالنية حيث يقصد الناس بلداً لا زرع فيه، وليس محلاً من المحال التي يطلبها الناس أو يقصدها الناس للبهجة، وحسن منظرها أو نحو ذلك، وإنما هي جبال سوداء، يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ مما جرت به العادة، وإلا فكثير من الثمار في الدنيا لم تكن تجبى إليه في ذلك الوقت في مشارق الأرض ومغاربها، فهذا يفهم بهذا الاعتبار، وكذلك قوله - تبارك وتعالى -: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [سورة الأحقاف:25] مع أنها لم تدمر الجبال، ولا السماوات، ولا الأرض، إنما تدمر كل شيء مما سيقت لتدميره، والعرب تفهم هذا، فيسمونه العموم الاستعمالي، ولا حاجة لأن يقال: إنه مخصوص بالعقل، أو بالحس أو نحو ذلك، ما في حاجة فتبقى العمومات على حالها، وذلك أقوى لأدلة الكتاب، والسنة؛ لأنهم يقولون: إن المخصصات تضعف الدليل، تضعف العام إذا ورد عليه التخصيص، ومن ثَمّ فإن أهل الكلام يوهنون نصوص الوحي بجملة من الأمور هذا واحد منها، فلجئوا إلى العقل وقالوا: إنه المعتمد المعول عليه في الاعتقاد؛ لأن ذلك يعد من الدلائل القطعية، وإن العقائد لا يصح الاستدلال عليها بدليل ظني، والذي جعل نصوص الكتاب، والسنة؛ ظنية جملة من الأمور التي طعنوا بها في الأدلة هذا واحد منها، وتجد ذلك في كتب أصول الفقه كثيراً.