الأحد 13 / ذو القعدة / 1446 - 11 / مايو 2025
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍۭ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَٰكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنۢ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوَٰرِثِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ۝ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [سورة القصص:58-59] يقول تعالى مُعَرّضًا بأهل مكة في قوله: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا أي: طغت، وأشرَت، وكفرت نعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق كما قال في الآية الأخرى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ۝ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [سورة النحل: 112-113]".

قوله - تبارك وتعالى -: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا البطر أصله الطغيان عند النعمة، وقوله: بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا بعضهم كالزجاج يقول: أي بطرت في معيشتها، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فلما حذفت "في" تعدى الفعل بنفسه بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا كما في قوله - تبارك وتعالى -: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً [سورة الأعراف:155] يعنى اختار من قومه سبعين رجلاً اختار موسى قومه، وبعضهم يقول: إن ذلك منصوب على التفسير، أي أنه تفسير لما قبله بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا كما في قوله - تبارك وتعالى -: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ [سورة البقرة:130] فيكون ذلك تفسيراً لما قبله، هذا يقوله الفراء.

"ولهذا قال: فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلاً أي: دَثَرت ديارهم فلا ترى إلا مساكنهم".

المراد بالقليل في قوله: لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلاً بعض المفسرين يقول: أي أنها صارت خراباً خالية من السكان، فلم يُسكن منها إلا القليل بعدهم، يعني أن ذلك يرجع إلى المساكن التي لم تسكن إلا قليلاً من المساكن، هذا المعنى، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، وبعضهم يقول: المقصود بالقليل هو ما قد يحصل من سكنى بعض المارة المجتازين بها، فعابر السبيل (المسافر) ربما يستريح فيها بعض الوقت، لَمْ تُسْكَنْ يعني إلا مثل هذه الأوقات القليلة، وبعضهم يقول: لشؤمها أو لشؤم أهلها فإن من سكنها بعدهم لم يبقَ فيها إلا القليل يعنى يهلك، وهذا بعيد، والعرب قد تعبر بالقليل وتقصد به العدم، ولهذا تجد في كتاب الله  في مواضع يذكر فيها مثل هذا الاستعمال كقوله - تبارك وتعالى -: قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب:16] على خلاف في المراد بذلك التمتيع القليل فبعضهم يقول: لا يمتعون لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ فإذا جاء القدَر انتهى، فلا تمتيع لهم، ولكن العرب قد تستعمل القليل وتريد به العدم، وتجد هذا في ذكر الله حينما يذكر الكافرين، وأوصافهم ونحو ذلك في عقلهم، أو في إيمانهم فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:155] فبعضهم يحمله على هذا المعنى - والله تعالى أعلم -.

"وقوله: وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ أي: رجعت خرابًا ليس فيها أحد".