الخميس 10 / ذو القعدة / 1446 - 08 / مايو 2025
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِىٓ أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ٱلْقُرَىٰٓ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَٰلِمُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ثم قال الله - تعالى - مخبرًا عن عدله، وأنه لا يهلك أحدًا ظالمًا له، وإنما يهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم، ولهذا قال: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا وهي مكة رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا".

 قال هنا: مكة حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا والرسول على قول ابن كثير - رحمه الله - هو النبي ﷺ لأنه خص ذلك بمكة، حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا يعنى مكة، وهذا الذي قاله ابن جرير - رحمه الله - مع أن الآية أعم من ذلك في ظاهرها، فالله - تبارك وتعالى - يقول: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا [سورة القصص:59] فهذا عام في كل القرى، وهو يصدق على مكة، فيصلح أن يكون ذكر مكة من قبيل التفسير بالمثال؛ لأن الآية عامة، والمقصود بـ أُمِّهَا هي القرية الكبرى يعني القرية في القرآن تطلق على مجمع السكان سواء كان كبيراً أو صغيراً، ليس كالاصطلاح اليوم القرية هي مجمع السكان الصغير مع العمران المحدود، والمدينة هي ما يكون أوسع من ذلك، وأم القرى هي القرية الأكبر أو المدينة الأكبر كما يقال الآن مثلاً: العاصمة.

"رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا فيه دلالة على أن النبي الأمي وهو محمد ﷺ المبعوث من أم القرى؛ رسول إلى جميع القرى من عرب، وأعجام كما قال - تعالى -: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [سورة الشورى:7]".

وقد يؤخذ من هذا فائدة في الدعوة إلى الله - تبارك وتعالى - أن الجهود الدعوية، وكبار العلماء، وكبار المصلحين الأولى؛ أن يكونوا في العواصم التي تكون مرجعاً لغيرها فتبلغ دعوتهم الآفاق، وتبلغ ما لا تبلغه دعوة من غيرهم، وهذا أمر مشاهد إلى يومنا هذا، وهذا أمر له تعلق بأشياء أخرى نفسية، فإن أهل النواحي الأخرى، والقرى، والأرياف وما إلى ذلك ينظرون إلى أهل العواصم أهل العاصمة على أنهم أكثر تطوراً وتمدناً، وتحضراً، ينظرون إليهم بشيء من الإكبار، كل شيء جاء من العاصمة فهو له بريق، ولهذا تجد حتى في المحاكاة غالباً حينما تنظر إلى قضية التبرج مثلاً عند النساء، واللباس، والتبذل فيه وما إلى ذلك؛ تجد أن النساء في زماننا هذا في الأرياف لربما يتبجحن بالسفور، والتبرج؛ بطريقة ممجوجة مخالفة للذوق كل ذلك لربما لمحاكاة أهل المدنية، وأهل المدن الكبار ونحو ذلك بطريقة لربما أولئك لا يجرؤون عليها، فتجد هؤلاء أكثر سفوراً، وتبرجاً فيما نسمع، وقد سمعت هذا كثيراً في نواحٍ أن ما يعانونه من التبذل في اللباس في الأعراس، والمناسبات؛ من النساء خلاعة، وتكشف أعظم مما يوجد في المدن الكبيرة، وذلك كأنه شعور بالنقص يحاولون تعويضه بهذه الطريقة، يظهرون بصورة ملفتة، وقل مثل ذلك في نظرة هؤلاء الناس من أهل النواحي، والأرياف، والقرى إلى من يأتي من العاصمة ينظرون إليه بأنه أكثر منهم تحضراً ومدنية، ولو كان في الواقع أقل منهم، ولو كان في الواقع في حال من الفقر، والمسكنة، والضعف، لكن هؤلاء أهل العاصمة! هذا موجود، ومثل هذه الأشياء، والدراسات؛ يُحتاج إليها في الدعوة إلى الله، والتعليم وما إلى ذلك، وإن كان هذا خارجاً عما نحن فيه، ولكن بعض الأشياء لا بأس أن يُلفت النظر إليها تسأل أحياناً في بعض البلاد ما هي المعاهد، والكليات، والجامعات القوية التي يكون لمن تخرج منها أثر في بلادكم؟ لكن الملفت للنظر أن أول شيء عندهم هو العاصمة، الجامعات التي في العاصمة، الناس الذين جاءوا من العاصمة، هؤلاء ينظر إليهم نظرة أخرى، وهذا يعتز بالشهادة التي حصل عليها من العاصمة، بخلاف الشهادة التي أخذها من فرع، أو كلية في ناحية أخرى، لربما يكون ينظر إليها بشيء من الإغماض، فهو لا يراها ترقى إلى مستوى يفتخر، ويعتز به، وهكذا الذين يأتونهم من العاصمة من الدعاة، وأهل العلم ونحو ذلك ينظرون إليهم بإكبار، فكيف بأم القرى مكة، ومن يأتي منها، وهكذا؟، والناس ينظرون إلى من جاء من مكة، أو المدنية؛ على أنه ملك تنزل عليهم من فوق، من السماوات، وقد تسمع من يقول: أنتم ملائكة، كبار السن والشباب، وأنتم ملائكة جئتم إلينا، وتوجد معاهد كبيرة قد تضم ثلاثين ألف طالب، فيقولون: أرسلوا إلينا طالباً من عندكم في الثانوية في الأجازة؛ ليرفع من معنوياتنا كثيراً، ونشعر أن واحداً من أحفاد الصحابة موجود بيننا، لا يدرس، ولا يقدم شيئاً؛ إطلاقاً أهم شيء يجلس معنا، ولا يقصدون بهذا التبرك، وإنما لرفع المعنويات، ولو أقيمت دورة علمية لأحد العرب يأتيه الطلاب من كل ناحية، وقد يشترط فيقول: أريد من كل معهد مثلاً الأول والثاني، أو الثلاثة الأوائل، أو أريد أبرز الدعاة، يقولون: لكن إذا كان من أهل البلد لا يجتمع عليه الناس؛ ولو فعّلنا برامج، وأقمنا دورات.

أما الذين يذهبون للفجور فهؤلاء يهدمون كثيراً، ويسيئون إلى أنفسهم وإلى غيرهم، وإلى دينهم، لكن الناس يتصورن هذا: أننا أولاد الصحابة، - والله المستعان - فقوله - تبارك وتعالى -: حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا هذا مهم في تقديم الدعوة، وتقديم العلم، وتعليم الناس، وإقامة الجامعات، والبرامج العلمية القوية التي تستهدف النخبة مثلاً الأولى بها أن تكون في العاصمة، قد تكون المصلحة في غير هذا، ولا يترك أهل النواحي، لا يقام لهم لا جامعات، فحينما نريد أن نقيم برامج نوعية، أو كبار العلماء، كبار الدعاة إلى الله؛ الأولى أن يكونوا في العواصم يقصدهم الناس، ولكثرة من يرد إليها مع تنقلهم في غيرها - و الله أعلم -.

هذا مثل قضية بعث الرسل - عليهم الصلاة والسلام - من أهل القرى لم يبعث من البوادي، والرسل - عليهم الصلاة والسلام - كلهم  لم يكن فيهم أحد من أهل البادية، وإنما كانوا من أهل القرى، وهذا له تعلق بطبيعة الإنسان، وطبيعة التعامل، وما يحصل في البوادي من أثر البيئة ونحو ذلك ما قد يكون سبباً لتنفير الناس، والدعوة تحتاج إلى تألف، وشيء من اللباقة - والله أعلم -.

"وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [سورة الأعراف:158]، وقال: لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [سورة الأنعام:19]، وقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [سورة هود:17] وتمام الدليل قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا... الآية [سورة الإسراء:58] فأخبر أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة، وقد قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15].

فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى؛ لأنه مبعوث إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها، وثبت في الصحيحين عنه - صلوات الله وسلامه عليه - أنه قال: بعثت إلى الأحمر والأسود[1]، ولهذا ختم به النبوة، والرسالة، فلا نبي بعده، ولا رسول، بل شرعُه باقٍ بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة".

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (14264)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.