الإثنين 08 / ربيع الأوّل / 1447 - 01 / سبتمبر 2025
وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ۝ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ۝ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [سورة القصص:7-9].

ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل خافت القبط أن يُفْني بني إسرائيل فَيَلُون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة، فقالوا لفرعون: إنه يوشك - إن استمر هذا الحال - أن يموت شيوخهم، وغلمانهم يقتلون، ونساؤهم لا يمكن أن يَقُمْن بما يقوم به رجالهم من الأعمال، فيخلص إلينا ذلك، فأمر بقتل الولدان عامًا، وتركهم عامًا، فولد هارون في السنة التي يتركون فيها الولدان، وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها الولدان، وكان لفرعون أناس موكلون بذلك، وقوابل يَدُرْنَ على النساء، فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها، فإذا كان وقت ولادتها لا يَقْبَلُها إلا نساء القبط، فإذا ولدت المرأة جارية تركنها، وذهبن، وإن ولدت غلامًا دخل أولئك الذبَّاحون، بأيديهم الشفار المرهفة، فقتلوه، ومضوا - قَبَّحَهُم الله تعالى -.

فلما حملت أم موسى به لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها، ولم تفطن لها الدايات، ولكن لما وضعته ذكرًا ضاقت به ذرعًا، وخافت عليه خوفًا شديدًا، وأحبته حبًّا زائدًا، وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه، فالسعيد من أحبه طبعاً، وشرعًا قال الله - تعالى -: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [سورة طه:39]".

فمن المعلوم أن الله - تبارك وتعالى - إذا أراد أمراً هيأ أسبابه، ومهما بذل الخلق، وعملوا، وأفنوا الأموال، والأوقات في الحيلولة دون وقوعه؛ فإن تدبيرهم، وسعيهم، وبذلهم، وإنفاقهم يكون على خلاف مطلوبهم، وهذا فيه عبرة عظيمة، والكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - كلام نفيس، جاء في تضامينه هذا المعنى الذي أشرت إليه آنفاً، فمثل هذا ينبغي أن يعتبرَه أهل الإيمان، ويعلموا أن الله عليم حكيم، وأن الله ناصر دينه، وكتابه، ورسوله ﷺ، وعباده المؤمنين، ويعتبرَ به أهل النفاق والكفر، فيعلموا أن تدبيرهم كما قال الله - تبارك وتعالى -: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ۝ لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة الأنفال:36-37]، والواقع يشهد بهذا في مشارق الأرض، ومغاربها، وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا: فلما حملت أم موسى به لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها، ولم تفطن لها الدايات، الدايات جمع داية وهي الحاضنة، أو المرضعة الأجنبية غير الأم، ويقال للقابلة التي تلي توليد المرأة، يقال لها: داية، وقوله: وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه، فالسعيد من أحبه طبعاً، وشرعاً قال تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، قد مضى الكلام على هذا المعنى، وأن هذا أحد القولين في الآية: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، المعنى الأول أن الله أحبه، والمعنى الثاني: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي يعني أن لا يراه أحد إلا أحبه، وهذا كما في الحديث: فيقول الله لجبريل إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض[1]، فهذا هو المعنى الذي يشير إليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: لا يراه أحد إلا أحبه، فالسعيد من أحبه طبعاً، وشرعاً، "طبعاً" باعتبار أنه لا يراه أحد إلا أحبه، يعني من الناس من يكون له القبول، والمحبة، فالقلوب تحبه، وتنجذب إليه، ومن الناس من تنفر منه القلوب بمجرد رؤيته، وتنقبض منه ولا تطيقه، وإن كانوا لا يعرفون عمله، وهذا شيء مشاهد، فالقبول والمحبة من الله - تبارك وتعالى -، فهذا من أحبه "طبعاً"، قال: و"شرعاً" المحبة الشرعية هي المحبة التي تكون لله، وفي الله، فيحبه؛ لأنه من أعظم أولياء الله، ورسله - عليهم الصلاة والسلام -، فقد تحب أحداً من الناس محبة طبع كما يحب الرجل ولده، أو والده، أو من يجانسه في طبع وخلق، أو يحب امرأته أو نحو ذلك هذه محبة طبع، ومحبة الشرع هي المحبة التي تكون لله، وفي الله.

"فلما ضاقت ذرعًا به أُلهمت في سرها، وألقي في خلدها، ونُفِثَ في روعها، كما قال الله - تعالى -: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فسر الوحي إلى أم موسى - عليه الصلاة والسلام - بالإلقاء في الروع، ألقى الله في روعها، أو نفث في روعها، أو ألهمها، ومن أهل العلم من يفرق بين النفث في الروع، والإلهام - والروع هو القلب، والروع الخوف - نفث في روعها من أهل العلم من يفسر النفث في الروع بأنه يكون بإلقاء الملَك، بواسطة الملك يلقي المعنى في القلب، وأن الإلهام يكون بإلقاء المعنى بالقلب من غير واسطة الملك، هكذا فرق بعض أهل العلم بين الإلهام، والنفث في الروع، ومن أهل العلم من قال: هما بمعنى واحد، فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - ظاهرُ صنيعه أنه لم يفرق بينهما؛ لأنه قال: "ألهمت في سرها، وألقي في خلدها، ونفث في روعها"، أتى بهذه الجمل الثلاث مما يدل على أنها عنده بمعنى واحد، وهذا قال به بعض أهل العلم: أعني أن ما حصل لأم موسى إنما هو من قبيل الإلهام، هذا احتمال، وهناك احتمال آخر وهو أن الله بعث اليها ملكاً، وبعْثُ الملك ما يعني بالضرورة أن يكون الإنسان نبياً؛ فمريم - رحمها الله - جاءها الملك، وتمثل لها بشراً سوياً، وكلمها، وكذلك أيضاً في قصة الثلاثة: الأقرع، والأبرص، والأعمى؛ جاءهم ملك على صورة رجل، فالملك قد يأتي إلى أحد من الناس ولا يكون نبياً، فقد يكون بعث الله لها ملكاً، وقد يكون نفث في روعها، وقد يكون ألهمها، المهم أن الله أوحى إليها، وهذا غير الوحي التسخيري للجمادات، أو لبعض الجمادات كالوحي لما قال الله للسموات: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ۝ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا [سورة فصلت:11-12]، وغير الوحي الغريزي في بعض الكائنات مثل وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [سورة النحل:68] فهذا غيرهما - والله أعلم -، وهذا يحتمل بالنسبة لأم موسى.

"وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل، فاتخذت تابوتًا، ومهدَت فيه مهدًا، وجعلت ترضع ولدها، فإذا دخل عليها أحد مِمَّنْ تخاف جعلته في ذلك التابوت، وسيرته في البحر، وربطته بحبل عندها".

يعني: مثل هذه الأشياء لم يرد فيها حديث ثابت عن النبي ﷺ، وإنما مثل هذا غالباً يكون مما تُلقي عن بني إسرائيل، وأخبار بني إسرائيل كما تعلمون.

"فلما كان ذات يوم دخل عليها مَنْ تخافه، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت، وأرسلته في البحر، وذهلت عن أن تربطه".

قوله - تبارك وتعالى -: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ يدل على أنها تلقيه فيجري به الماء بهذا التابوت لا أنه مربوط، فهي تتناوله متى شاءت، فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وهذا ظاهره، فالكلام على أنه مربوط ونحو ذلك لا دليل عليه، ثم إن ظاهر القرآن يخالف ذلك، لو كانت المسأله أنه مربوط هي ستطمئن إلى حد ما، ولا تحتاج الى هذا الوعد إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وهذه الوعود من الله - تبارك وتعالى - لتطمينها، فهو شيء يخرج من يدها، فجاءها هذا التطمين من الله ؛ ولهذا يقولون: إن هذه الآية تضمنت أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ أمر، فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ هذا أمر - أيضاً -، وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي هذان نهيان، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فهذا خبران تضمنا بشارتين، فهذه ثمانية أشياء في هذه الآية، وهذا من بلاغة القرآن يجمع المعاني الكثيرة في العبارات القصيرة.

  1. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده، برقم (2637).