"قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة القصص:71-73].
يقول تعالى ممتنًا على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذيْن لا قوَامَ لهم بدونهما، وبيّن أنه لو جعلَ الليلَ دائمًا عليهم سرمدًا إلى يوم القيامة لأضرّ ذلك بهم، ولسئمته النفوس، وانحصرت منه، ولهذا قال تعالى: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أي: تبصرون به، وتستأنسون بسببه أَفَلا تَسْمَعُونَ.
ثم أخبر أنه لو جعل النهار سرمدًا دائمًا مستمرًّا إلى يوم القيامة لأضرَّ ذلك بهم، ولتعبت الأبدان، وكلَّت من كثرة الحركات، والأشغال؛ ولهذا قال: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أي: تستريحون من حركاتكم، وأشغالكم أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ أي: بكم جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أي: خلق هذا وهذا لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي: في الليل، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي: في النهار بالأسفار، والترحال، والحركات، والأشغال، وهذا من باب اللف، والنشر".
قوله - تبارك وتعالى - هنا سَرْمَدًا السرمد في كلام العرب هو الشيء الدائم المستمر سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أي دائماً متصلاً، لا يزول، ولا يتحول، وقوله هنا - وتأمل الآية -: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ في الأولى قال: أَفَلا تَسْمَعُونَ وفي الثانية قال: أَفَلا تُبْصِرُونَ، ووجه التفريق بينهما أنه قال هنا: أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّـهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ اللَّـهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ وفي النهار ذكر الإبصار، فسلطان البصر في النهار، وسلطان السمع في الليل، يعني في الليل لا يكون سلطان البصر وإنما السمع، وفي النهار قال: أَفَلا تُبْصِرُونَ كما قال في آخر السجدة: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ [سورة السجدة:26] فهم ما أدركوا تلك القرون، وإنما يسمعون أخبارهم أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا، وفيما يتعلق بالبصر قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [سورة السجدة:27] هذه أشياء يشاهدونها في حروثهم، وأرضهم وما أشبه ذلك، وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عند قوله: وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه، ولتبتغوا من فضله"، الحافظ - رحمه الله - يقول: وهذا من باب اللف، والنشر، واللف، والنشر؛ أن يأتي بالكلام مجملاً ثم بعد ذلك يكون مفصلاً، وهو على نوعين: لف، ونشر مرتب كهذا المثال، ولف، ونشر مشوش يعني يكون فيه تقديم، وتأخير، فهنا جعل الله الليل، والنهار قال: لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ فقوله: لِتَسْكُنُوا فِيهِ عائد إلى الليل، وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ عائد إلى النهار، فجاء حكم كل واحد منهما مرتباً بحسب ذكره قبلُ، هذا اسمه لف، ونشر مرتب، ذكر الليل والنهار ثم ذكر حكم كل واحد منهما، فجاء بهذه الأحكام مرتبة كترتيب ما قبلها، وقد يكون مشوشاً، وقوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [سورة آل عمران:106]، جاء بالأحكام بعدهما على غير الترتيب الأول تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ لو كان مرتباً لكان ذكر أولاً حكم وحال الذين ابيضت وجوههم، ثم ذكر الذين اسودت وجوههم، وهكذا تجد في القرآن هذا وهذا.
وأيضا وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ من أجل أن تشكروا الله على هذا الإفضال والإنعام حيث جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ [سورة يونس:67] فيه يكون السكون، والظلام؛ فيكون محلاً للراحة، وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ليكون محلاً للحركة، والانتقال، وطلب الرزق وما أشبه ذلك، لتقلّب الخلق تقلب العباد في مصالحهم، ومعايشهم، وأرزاقهم، فهذا كله من نعمه على عباده التي تستوجب شكر المنعِم .