فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ [سورة القصص:79-80].
يقول تعالى مخبرًا عن قارون: إنه خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة، وتجمل باهر من مراكب، وملابس عليه، وعلى خدمه، وحشمه، فلما رآه مَنْ يريد الحياة الدنيا، ويميل إلى زُخرفها، وزينتها؛ تمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطي، قالوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي: ذو حظ وافر من الدنيا، فلما سمع مقالتهم أهلُ العلم النافع قالوا لهم: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا أي: جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون.
كما في الحديث الصحيح: يقول الله - تعالى -: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة السجدة:17][1].
وقوله: وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ: قال السدي: "وما يلقى الجنة إلا الصابرون" كأنه جعل ذلك من تمام كلام الذين أوتوا العلم.
هم يقولون: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا يعني الجنة التي يثيب الله بها عباده المؤمنين، وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ الصابرون على طاعته، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة، ويكون هذا من بقية كلامهم.
فالمعنى الأول وَلا يُلَقَّاهَا أن هذا من كلامهم، وهم يقولون: ولا يُلقَّى هذا الثواب - هذه الجنة - إلا الصابرون، عاتبوهم وقالوا لهم هذا الكلام.
كلام ابن جرير جاء به بالمعنى، وهذه ليست عبارة ابن جرير تماماً، ولكن جاء بما حاصله ما ذكر هنا: ولا يلقَّى هذه الكلمة إلا الصابرون، يعني عن طلب زينة الحياة الدنيا، فيكون هذا من كلام الله يعني هم قالوا لهم: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا انتهى، قالوا لهم هذا الكلام، والله - تبارك وتعالى - عقب ذلك بقوله: وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ ما يلقى هذه الكلمة، وهذا الفهم، وهذا النظر، والإدراك الصحيح في الأمور، ومعرفة حقائق الأشياء؛ إلا الصابرون، فالذين يغترون بظاهر الحياة الدنيا، وتستميلهم بهجتها، ونضارتها هؤلاء يندفعون في مثل هذه المقامات، ويتمنون لو حصل لهم مثل هذا الذي حصل لقارون، وأشباه قارون، فهؤلاء يقولون لهم: لا تغتروا فما عند الله خير، قال الله: وَلا يُلَقَّاهَا هذه الكلمة يعني التي تحوي هذا الفهم إِلا الصَّابِرُونَ عن زينة الحياة الدنيا، والاشتغال بها عن الآخرة، ناس عرفوا حقيقة الدنيا فأعطوها قدرها، وحجمها، ولم يغتروا بها فهي متاع الغرور، هذه البغال كلها تموت، والثياب كلها تبلى، وتفنى، والكنوز عما قريب لا يبقى منها شيء، فلا يستطيع أحد أن يأتي بشيء من أموال قارون ولو شعرة، ذهبت، وانتهت، وأين الذي جمعه أهل الثراء والمال في القرون السابقة؟ وأين قصورهم؟ يجتهدون وينفقون الأموال الطائلة من أجل حفر كثبان ضخمة أحيانا حتى يحصلوا على بعض الأعمدة يرونها، أو جَرّة مكسورة يجدونها، أو شيء من هذا القبيل، يقولون: إنها بقايا لبعض الغابرين، أين العرَض الكثير الذي كانوا يتمتعون به، ويغتر به من يغتر، وتمتد نفوسهم قبل أنظارهم إليه؟؛ لهذا كان بعض السلف إذا رأى أُبهة، ورأى أهل الدنيا والعرِض؛ صرف نظره، ولربما أنكر على من يقف، ويتفرج، وينظر يقول: إنما صنعوا ذلك من أجل أن تنظروا إليه، فلا تلتفت إليه، لا تنظر إليه، فهذا عرض زائل ينبغي أن يعطى الحجم الذي يليق به، عما قليل كل هذا يتلاشى، والمراكب والسيارات الفارهة بعد مدة تجدها تعرض بأقل الأثمان، ولا يلتفت إليها أحد، يسومها المفاليس كما قال بعضهم عن ناقته:
وقد هُزِلتْ حتى بدا من هُزالها | كُلاها وحتى سامها كلُّ مفلس |
يوم كانت نفيسة ما أحد يتجرأ أن يسومها، أما حين صارت ضعيفة هزيلة ظهرت كُلاها صار كل مفلس يقول: بكم الناقة، فهكذا هذه السيارة الفخمة الضخمة التي إذا مرت وقفت لربما كثير من السيارات حتى تمر، والذي يركب مركباً ضعيفاً لربما هذا يلجئه إلى الرصيف، وهذا يزجره، وكل هذا من ضعف العقول، وإلا فعما قريب يتلاشى ذلك كله، هذا الجسد المترف المنعم الذي يأكل أحسن المآكل يكون طعاماً للدود، وتذهب نضارته وبشاشته، وهذه الأموال، وهذا العرَض، البيت يصير قديماً خرباً، والمراكب كذلك، والفرش كذلك، وكل شيء يبلى، كل شيء هالك إلا وجه الله .
وقوله: "جعَلَه من كلام الله ، وإخباره بذلك" وَلا يُلَقَّاهَا تلك الكلمة، وبعضهم يقول: المقصود الأعمال الصالحة ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا يعني الأعمال الصالحة.
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3072)، ومسلم، في بداية كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، برقم (2824).