السبت 27 / شوّال / 1446 - 26 / أبريل 2025
قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِىٓ ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِۦ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [سورة القصص:78].

يقول تعالى مخبرًا عن جواب قارون لقومه، حين نصحوه، وأرشدوه إلى الخير قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أي: أنا لا أفتقر إلى ما تقولون، فإن الله - تعالى - إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني أستحقه، ولمحبته لي، فتقديره: إنما أُعطيته لعلم الله فيّ أني أهل له".

يعني: عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي على علم من الله باستحقاقي لهذا المال لفضل عندي.

"وهذا كقوله تعالى: فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ [سورة الزمر:49] أي: على علم من الله بي، وكقوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي [سورة فصلت:50] أي: هذا أستحقه".

هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - هو المعنى الذي قال به كثير من المفسرين ومنهم ابن جرير  - رحمه الله -: على علم من الله بي أني استحق ذلك، على فضل علم عندي، علمَه الله مني، فرضي بذلك عني، وفضلني بهذا المال على سائر الناس، وهذا الذي قال به الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، ورد على قول من قال: عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أي أن الله أعطاني هذا المال على علم مني بوجوه المكاسب، وطرق تحصيل المال، يعني بذكائي، ومهارتي، وحذقي، فجحد نعمة الله عليه، فهذا كله كفر بالنعمة، وعلى التفسيرين يكون كفره أشد الذي يقول: أنا أوتيته لمعرفتي بوجوه المكاسب، وحذقي، وخبرتي، ودرايتي بالاقتصاد، وهذا قال به جماعة من المفسرين عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أي المعرفة بوجوه الكسب.

"وقد أجاد في تفسير هذه الآية الإمام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فإنه قال في قوله: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي قال: لولا رضا الله عني، ومعرفته بفضلي؛ ما أعطاني هذا المال، وقرأ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا".

يعني الآن يقول: إن هذه قرينة تدل على هذا التفسير، ويقول: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أي أن الله علم استحقاقي لهذا ففضلني به، فهذا لمنزلتي عنده - تبارك وتعالى -، فيقول: إن الله رد عليه بأنه قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه، فلو كان العطاء يدل على الرضا، وأن هذا الإنسان يستحق هذا العطاء، وأن ذلك يدل على التفضيل؛ لمَا أهلك الله قبله مِن القرون مَن هو أشد منه قوة، وأكثر جمعاً، فهذه تكون قرينة على هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله -، وذكره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

"وهكذا يقول مَنْ قل علمه إذا رأى مَنْ وسع الله عليه يقول: لولا أنه يستحق ذلك لما أُعطي".

يعني يدل على أن هذا التفضيل بالمال دليل على محبة الله للإنسان، ولهذا يقولون: كيف يكون الكفار كفاراً ومع ذلك تنزل عليهم أمطار، وبلادهم ما شاء الله خضراء جميلة، وجوهم جميل، ونحن في جدب، وفي كل شهر أو أقل نصلي استسقاء، والأرض حتى لو نزل المطر لا تكاد تنبت، فهذا الذي يقول هذا الكلام ما عرف الله معرفة صحيحة بأسمائه، وصفاته، ولو عرف ذلك لما حصل له مثل هذا التعجب، فهذا قارون من قوم موسى أعطي من الكنوز مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ هذه الكنوز ما أعطيها موسى - عليه الصلاة والسلام - ولا هارون ﷺ، فلا يأتي أناس من الأغبياء في زمانهم ويقولون: كيف يكون هذا منافقاً، وكافراً؛ وقد أعطي من هذه الكنوز؛ لأن العبرة ليست بهذا، ولهذا انظر ما فعل الله به، فهو عدو لله مُحادٌّ له، فهذا العطاء هو استدراج أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ۝ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ [سورة المؤمنون:55-56] فهذا لا يدل على رضا الله - تبارك وتعالى - عن هؤلاء، قال: وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ أي: لا يُسألون لكثرة ذنوبهم فيلقوا في النار مباشرة لكثرة ذنوبهم، وظهورها كما يقول قتادة، فلكثرتها لا يحتاج إلى سؤال، وإنما مباشرة يلقون في النار وهو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، وبعضهم يقول: لا يسألون يعني سؤال استعتاب، وإلا فقد ورد السؤال في مواضع أخرى من القرآن مثل: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ [سورة الصافات:24]، فهذا سؤال تبكيت لا ينتظر منه الجواب الذي يحصل فيه العذر للإنسان، فيُسمع، ويقبل ذلك منه، ليس هذا المراد، وهناك فرق بين سؤال الاستعتاب، وسؤال التبكيت، فسؤال الاستعتاب تنتظر منه الجواب من أجل أن تعذره لعل له عذراً، وأما سؤال التبكيت فهو لمزيد الألم، ولا ينتظر فيه سماع المعاذير، ولا ينتظر فيه الجواب أصلاً، وإنما يراد إسماعه فقط هذا السؤال لتبكيته، وبعضهم يقول كما يقول مجاهد - رحمه الله -: لا تسألهم الملائكة؛ لأنها تعرفهم بسيماهم يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ [سورة الرحمن:41] فهم سود الوجوه، زرق العيون، لكن هذا لا يخلو من بعد - والله أعلم -، فهذه الآية وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ فلم يقل: ولا يُسأل عنهم، ولا قال: لا يَسأل عنهم، وإنما قال: وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ، وبعضهم يقول: وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ يعني ذنوب أولئك الذين غبروا، وأهلكهم الله من الأمم الخالية لا يُسأل عنهم أهلُ الإجرام من هذه الأمة، لا يُسألون عن ذنوب أولئك الذين أهلكهم الله لأنهم أشد من قارون، لا يُسأل عنهم، وعن ذنوبهم أهلُ الإجرام من هذه الأمة، يعني لو كان الفعل غير مبني للمجهول - حتى تتضح - يكون هكذا: ولا يسأل اللهُ عن ذنوب أولئك المجرمين، لا يَسأل المجرمين من هذه الأمة عن ذنوب أولئك الغابرين، فالمعنى يحتاج إلى شرح حتى يفهم، ومثل هذا العسر في فهمه يدل على بعده، وأنه ليس هو المتبادر من ظاهر القرآن - والله تعالى أعلم -.