هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا فتأخذ من ذلك مما أحل الله لك من التمتع بالطيبات من المآكل، والمشارب، والمناكح وما أشبه ذلك، وبهذا قال الحسن، وقتادة، وأكثر المفسرين يقولون: ولا تنس نصيبك من الدنيا فتتزود به لآخرتك، بخلاف قول ابن كثير - رحمه الله - يعني أن تعمل في دنياك لآخرتك، فإن نصيب الإنسان من الدنيا قالوا: هو العمل الصالح هذا العمر الذي هو الأنفاس التي تخرج ولا تعود، والدقائق، والثواني، والساعات، والأيام، والشهور، والسنوات؛ هذا هو رأس مال الإنسان، وهذا هو نصيبه فيستغل ذلك، ويعمل فيه بطاعة الله - تبارك وتعالى -، ويتجر حتى لا يقدم على الله إقدام المفاليس، أكثر المفسرين يقولون هذا، وبهذا يقول ابن جرير - رحمه الله -، والزجاج وجماعة كثيرة، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ سخِّرْ هذا المال والعطاء لطلب ما عند الله وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا فتصرف الأوقات، والجهود، والأعمال بطلب مرضاة الله - تبارك وتعالى -، والدار الآخرة، هذا قول أكثر المفسرين، والناس كثيراً ما يذكرون هذه الآية محتجين بها على من يرونه يجتهد في طاعة الله بعض الاجتهاد، فيثبطونه، ويقعدونه عن ذلك بقولهم: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا فجعلوا ذلك أصلاً حتى على المعنى الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - وقال: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ هذا هو الأصل وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا جعلوا القضية معكوسة، فجعلوا الدنيا، وإحراز ما جمعه الإنسان فيها، والتوسع في طلبها، والتهافت عليها، والاشتغال بحطامها، وتعلق القلب بها إلى الممات، وتحول ذلك إلى غاية جعلوه أصلاً، وجعلوا عبادة الله فرعاً تُعطى فضول الأوقات مع حالة من تفرق القلب، وتشوه الذهن، مع ما قد يخالط تلك العبادات من نيات فاسدة تشوبها، مع التقصير في القيام بها كما ينبغي، كما أمر الله - تبارك وتعالى - كل ذلك، ويحتج بهذه الآية وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا فعلى القولين الآية لا حجة فيها على ما يذكرون - والله تعالى أعلم -.
وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ يعني: أحسن إلى خلقه مطلقاً مثلاً، أو أحسِن بهذا المال الذي أعطاك الله كما يقول ابن جرير - رحمه الله -، والمعنى الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - أوسع من هذا كله، ولعله أقرب - والله تعالى أعلم -، وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أحسن مطلقاً، أحسن مع الله، والإحسان مع الله أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأحسِن إلى خلق الله بمالك وغير ذلك مما يحصل به الإحسان، وأول ذلك بالنسبة للمخلوقين هما الوالدان كما قال الله : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة النساء:36] فيدخل فيه الصلات المالية، ويدخل فيه الإحسان بالمعاشرة، والمخالطة، ويدخل فيه الإحسان بالقول، والمخاطبة، والكلام.