"إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [سورة القصص:76-77].
عن ابن عباس قال: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى قال: "كان ابن عمه"، وهكذا قال إبراهيم النَّخعي، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وسماك بن حرب، وقتادة، ومالك بن دينار، وابن جُرَيْج، وغيرهم: "أنه كان ابن عم موسى ".
قال ابن جُرَيْج: هو قارون بن يصهر بن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث".
يعني ابن عمه، وهذا الذي قال به كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير - رحمه الله -، ومبنى ذلك كله على أخبار بني إسرائيل، وبعضهم يقول: ابن خالته، وبعضهم يقول: كان عمَّه لأنه أخ لعمران، وهذا كله لا دليل عليه، وقول الله - تبارك وتعالى -: كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى يعني من بني إسرائيل، ولم يكن من الفراعنة، كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وبغيه عليهم: بعضهم يقول: بكفره، ونفاقه تحول، وتغيرت حاله لما أعطي من هذه الأموال، والكنوز، فحصل له الطغيان، والبغي، فتجاوز حده، وحصل منه عدوان، فبعضهم يقول: بكفره، وبعضهم يقول: فَبَغَى عَلَيْهِمْ كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل فظلمهم، وآذاهم، وبعضهم يقول: فَبَغَى عَلَيْهِمْ كما يقول ابن جرير - رحمه الله - وهو ظاهر القرآن - والله تعالى أعلم - إن المقصود فَبَغَى عَلَيْهِمْ يعني حصل منه ظلم، وتعدٍّ، وطغيان، فحصل منه أذية، فتجبر، وتكبر عليهم، تغير عليهم صار إلى حال من السوء، والترفع، والطغيان على قومه فَبَغَى عَلَيْهِمْ فكلمة البغي لا تدل على مجرد الكبر وحده، وإنما فيها معنى زائد، فالبغي فيه عدوان واصلٌ إلى الآخرين، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ [سورة النحل:90] فالبغي من جملة المنكر لكن هو منكر واصل إلى الآخرين فيه أذية للناس، وهنا قال: فَبَغَى عَلَيْهِمْ لكن لا يقال: إن بغيه عليهم هو بمجرد قوله: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي كما يقول بعض المفسرين، وبغى على بني إسرائيل بغى على قومه إذاً حصل منه عدوان على قومه.
الكنوز ليست مجرد الأموال، أو الأموال مطلقاً يقال لها: كنوز، والأصل أن ذلك يقال: للأموال المدخرة، ويطلق كثيراً على الأموال المدفونة تحت الأرض، فالأموال المدخرة يقال لها: كنوز، فمعنى ذلك أن الأموال الظاهرة كالإبل، والغنم، والزروع، والحروث وما أشبه ذلك لا يقال لها: كنوز إلا على سبيل التوسع في الكلام.
أي ليُثقِلُ حملُها الفئامَ من الناس لكثرتها لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ تنوء: يعني إذا قام متثاقلاً للشيء يقال: ناء به، وبعضهم يقول: يدل على ميلان، قام مائلاً متثاقلاً في الشيء، فتنوء بالعصبة: يثقل على العصبة، والعصبة الجماعة من الناس يتعصب بعضهم لبعض، بعضهم يقول: من الثلاثة إلى العشرة، وبعضهم يقول: من الخمسة إلى العشرة، وبعضهم يقول: من العشرة إلى الخمسة عشر، وبعضهم يقول: إلى العشرين، وبعضهم يوصل ذلك إلى الأربعين، وبعضهم يقول غير ذلك، ما اتفقوا فيه على معنى - والله تعالى أعلم -، فالمقصود أن الجماعة من الناس ينوءون بها يُثقلُهم حملُ هذه المفاتيح.
"أغر محجّلاً ستين بغلاً" هكذا عند ابن جرير وابن أبي حاتم، وأكثر الكتب التي خرجت هذا الأثر على ستين بغلاً، وفي الدر المنثور، وبعض من ينقل عنه مثل الشوكاني في فتح القدير سبعين بغلاً نقلته من أخبار بني إسرائيل، بل وقيل غير ذلك - والله أعلم - مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ المفاتح: بعضهم يقول: هو جمع مِفتح بالكسر، جمع مِفتح يعني: مفتاح، فيكون ذلك بمعنى أن المفاتيح لكثرتها، وهذا يدل على كثرة الخزائن، وما فيها من الكنوز، المفاتيح لكثرتها تنوء بالعصبة أولي القوة، يعني يثقل حملها على الجماعة من الناس، فإذا كان كذلك فما جاء هنا من أن المفاتيح تحمل على ستين بغلاً فهذا فيه مبالغة - والله تعالى أعلم -، يعني إذا كان يحملها الجماعة من الناس كم من الجماعة من الثلاثة إلى العشرة أو من الخمسة إلى العشرة أو من العشرة إلى الخمسة عشر أو من العشرة إلى العشرين أو يقال: إنهم أربعون أو خمسون، فحينما يثقل عليهم حمل المفاتيح تحمل على ستين بغلاً لا يخلو هذا من مبالغة - والله تعالى أعلم - كما هو حاصل في كثير من الأخبار الإسرائيلية، لكن بعضهم يقول: هو جمع مِفتح، والمقصود به الخزانة، ولهذا قال طائفة من أهل العلم وعزاه الواحدي لأكثر المفسرين، واختاره الزجاج أن المقصود بذلك الخزائن، مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ جمع مِفتح يعني خزائنه لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ أنها الكنوز هذه لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ فخزائنه تنوء بالعصبة أولي القوة، ولعل الأول أقرب - والله تعالى أعلم -، وهو أن ذلك يرجع إلى المفاتيح جمع مفتح، وبذلك يكون ذكر المفاتح هنا يشعر بضخامة هذه الكنوز وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ لكن لو كانت الخزائن تنوء بالعصبة أولي القوة فهذا قد يكون حاصلاً لكثير من الناس أن خزائن الأموال تنوء بالعصبة أولي القوة، عبد الرحمن بن عوف يذكر في ترجمته أنه لما توفي قُطع الذهب بالفئوس بين الورثة، فهذه أشياء كثيرة من الأموال فكون الخزائن تنوء بالعصبة هذا أمر يحصل، يعني في كل عصر لأناس من أهل الثراء، لكن بهذه الصورة أن المفاتيح تنوء بالعصبة تثقل بالعصبة فكيف بالخزائن، والكنوز - والله تعالى أعلم -.
كثير من عبارات المفسرين التي يُفسَّر بها هذا، واختلفت أقوال العلماء في المقصود بالفرِح في قوله: لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ هل المقصود به ذلك السرور الذي يكون في النفس؟ هل هذا مذموم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ سرور النفس، وبهجتها؟ أو أن المقصود به البطر مثلاً؟ فالذين فسروه بالبطر، أو الكبر، أو الخيلاء أو نحو ذلك من العبارات هو من قبيل التفسير باللازم، وليس ذلك هو معنى الفرِح في كلام العرب، ولكن ذلك لا يراد به على سبيل الذم كل فرِح إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ لأن الفرَح ثلاثة أنواع:
- نوع يحبه الله وهو الفرح بالهداية، والفرح بانتصار الإسلام، والفرح بفضل الله ورحمته قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [سورة يونس:58]، وقال الله - تبارك وتعالى -: الم غُلِبَتِ الرُّومُ... إلى قوله: يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [سورة الروم:1-5] فهذا أمر يؤجر عليه الإنسان، والله يحبه، فالفرح بهذه الرحمة من هداية، ونصر للدين ونحو ذلك.
- والنوع الثاني: وهو الفرح المباح كأن يكسب الإنسان في تجارة، أو يتخرج من دراسة، أو يحصل له شيء من الأمور السارة يتزوج، يرزق بولد؛ فيفرح بهذا، فهذا لا إشكال فيه، وهذا فرح مباح.
- والنوع الثالث: وهو الفرح المحرم الذي جاء ذكره هنا على سبيل الذم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وهو الفرح الذي يحمل صاحبه على الأشر، والبطر، والتعاظم، والخيلاء وما أشبه ذلك فهذا فرح مذموم كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6-7] فلربما حمل الثراء الإنسان على شيء من الترفع، والزهو، والتكبر على عباد الله - تبارك وتعالى - فهذا لا زال الناس يقولون عن مثله: فلان فرِحٌ بنفسه، أي مغتر، متعاظم، فيه زهو، فيه كبر، فهذا فرَح مذموم، لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ لأنه خرج بهذه الصفة فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ خرج متعاظماً في حال من الزهو، والخيلاء، والكبر، أعجبته نفسه، وماله فقيل له ذلك، قال له الصالحون من قومه من بني إسرائيل: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وأكثر ما يقوله السلف هو من قبيل التفسير باللازم لا تبطر وما أشبه ذلك.