الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيْرٌ مِّنْهَا ۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى ٱلَّذِينَ عَمِلُوا۟ ٱلسَّيِّـَٔاتِ إِلَّا مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ۝ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة القصص:83-84] يخبر تعالى أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين، الذين لا يريدون علوًّا في الأرض أي: ترفعًا على خلق الله، وتعاظمًا عليهم، وتجبرًا بهم، ولا فسادًا فيهم،كما قال عكرمة: "العلو: التجبر"، وقال ابن جُرَيْج: لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ تعظمًا، وتجبرًا، وَلا فَسَادًا: عملاً بالمعاصي.

وروى ابن جرير عن عليٍّ قال: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه، فيدخل في قوله: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.

وهذا محمول على ما إذا أراد بذلك الفخر والتطاول على غيره؛ فإن ذلك مذموم كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: إنه أُوحي إليّ أنْ تواضَعُوا، حتى لا يفخَرَ أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد[1]، وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمّل فهذا لا بأس به، فقد ثبت أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أحب أن يكون ردائي حسنًا، ونعلي حسنة، أفمن الكبر ذلك؟ فقال: لا، إن الله جميل يحبّ الجمال[2]، وقال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ أي: يوم القيامة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا أي: ثواب الله خير من حَسَنَة العبد، فكيف واللهُ يضاعفه أضعافًا كثيرة؟ فهذا مقام الفضل، ثم قال: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، كما قال في الآية الأخرى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة النمل:90] وهذا مقام الفصل، والعدل".

فقوله - تبارك وتعالى -: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أشار إليها بذلك لرفعة وعلو مقامها ومنزلتها، والدَّارُ الْآخِرَةُ تعني اليوم الآخر بما فيه من الجنة، والنار، ولكنها في هذا الموضع يراد بها الجنة، والذي يحدد ذلك هو السياق؛ لأن الله - تبارك وتعالى - قال: لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا فدل ذلك على أن المراد بالآخرة معنى خاص وهو الجنة، وهذا الذي عبر عنه بقوله: نعيم الآخرة أي أن الدار الآخرة، ونعيمها المقيم الذي لا يحول، ولا يزول لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا والعلو في الأرض بمعنى الرفعة، والتعاظم، ويدخل في ذلك الكبر وما إلى ذلك من المعاني، فكل من أراد أن يترفع في هذه الحياة الدنيا فإن فعله مذموم، وليس ذلك من أوصاف أهل الجنة سواءً كانت هذه الرفعة التي يطلبها بعمل الآخرة، أو كانت بعمل الدنيا؛ من المباح، أو كانت من الأفعال المحرمة، فهذه ثلاثة أنواع، وأقبحها، وأسوؤها الأول، وهو من يريد الفخر، والعلو، والرفعة، والحظوة في قلوب الخلق، والتعاظم بما يراد به ما عند الله - تبارك وتعالى - من العلم الشرعي، أو الدعوة إلى الله، أو الزهد؛ ليترفع به، يُظهر الزهد ليحصّل حظوة في قلوب الخلق، فكل من طلب الرفعة، والعلو في الدنيا بما يراد به وجه الله - تبارك وتعالى - فإن فعله مذموم، فإن هذه الأعمال الصالحة إنما تحمل العبد على مزيد من التذلل، والتواضع الذي هو معنى العبودية، فإن طلب ما هو من أضداد ذلك فإن فعله بلا شك قبيح، ويلي ذلك في القبح من طلب العلو بالظلم، والتجبر على الخلق، وألوان المعاصي التي يعصى الله - تبارك وتعالى - بها، فإن ذلك ليس من أوصاف أهل الجنة، وليس من أوصاف المؤمنين، ثم يلي ذلك من فعل الأفعال المباحة من جمع المال، وألوان الأعمال، والصنائع التي يقصد بها الرفعة في الدنيا، والتعاظم على الخلق، والتطاول بذلك، فإن فعله أيضاً مذموم، فهذه ثلاثة أصناف، والمؤمن يكون مُخِبتاً لربه - تبارك وتعالى -، لا يريد أن يتعاظم على أحد، ولا يطلب العلم للفخر، ولا للمماراة، ولا لتحصيل مراتب دنيوية مادية، ولا لأمور معنوية تتسلل إليها النفس، وتطلبها من تحصيل الجاه، والمحمدة؛ وما أشبه ذلك، تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ يتذكر الإنسان هذا المعنى دائماً نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا فهي معانٍ حريّة بالتأمل في وقت غلبت فيه النزعة المادية لدى الكثيرين، وصارت هذه المطالب لربما مما يربى عليه الصغير، ويعلق به قلب الكبير - والله المستعان -.

قال: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ هذا يكون في الأولى، والآخرة، فالعاقبة لهم دائماً في الدنيا بالنصر، والظهور، والتمكين، والغلبة، ومثل هذا لا يعتبر، ولا ينظر إليه باعتبار سنة أو عشر سنوات، وإنما إذا أردت أن تعرف أن العاقبة للمتقين انظر إلى صفحات التاريخ منذ نوح - عليه الصلاة والسلام - فقد كانت العاقبة للمتقين، فأظهر الله نوحاً ﷺ، ونصره نصراً مؤزراً لما قال: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ [سورة القمر:10]، وقال: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ ۝ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ۝ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ۝ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ [سورة القمر:11-14]، وهكذا جاء الأنبياء بعده - عليهم الصلاة والسلام - هود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، ولوط، ثم جاء أنبياء بني إسرائيل وكبيرهم موسى ﷺ فكانت العاقبة لهم جميعاً، حتى عيسى ﷺ مع أن الله رفعه، وتآمروا على قتله، وقصدوا ذلك؛ إلا أن الله - تبارك وتعالى - أخبر أنه سيجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، وفُسر هذا بظهور ما دعا إليه على يد النبي ﷺ وهي دعوة التوحيد، وما حصل من النصر، والتمكين، والظهور على اليهود الذين أرادوا قتل عيسى - عليه الصلاة والسلام -، فالتاريخ يُنظر إليه بهذا الاعتبار، ما يُنظر إليه في أيام يعايشها الإنسان، ونحن في هذه الأيام نرى عبراً كباراً تستدعي الوقوف طويلاً فيعتبر بها كل عاقل، كم من الناس ممن يعيشون في هذا العصر لربما عاش في بيئة ظن أن هذا هو نهاية المطاف، وأن أهل الصلاح والتقوى لا عاقبة لهم إلا في الآخرة، ثم أرى الله الناس الآيات بأولئك الذين حاربوا كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، هذه آيات نشاهدها، ولا كان أحد يتصور أن يرى ذلك بهذه السرعة، وبهذه الطريقة التي تحطم أعتى المناوئين للدعوة، والصلاح، والإصلاح، فالعاقبة للمتقين، بقيت الدعوة، وذهب الذين حاربوها في تلك البلاد، بقي المصلحون، وذهب كبار المفسدين، ولم يبقَ لهم شيء من الذكر الجميل، وتقشّع النفاق الذي كان يغشاهم صباح مساء، وتحول حامدهم إلى ذامٍّ، هذه عبر وآيات، يدرك المؤمن حقيقة ما أخبر الله عنه من أن وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، فكم من الناس مما في قلبه مرض وضعف؛ ممن إذا أصابه خير اطمأن به، وإذا أصابته فتنة انقلب على وجهه، وكم من إنسان قد ترك دينه ومبادئه من أجل مخلوق ضعيف، تعاظم في عينه حتى ملأ عليه كل شيء، ثم يرى هذا المخلوقَ يتهافت، فيدرك المؤمن أن العاقبة للتقوى، وهذا في الدنيا، وفي الآخرة، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ثم قال: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا، قال: بأن جزاء الله خير من حسنة العبد، وهذا صحيح، فإن جزاء الله على الحسنة بمجرده من غير مضاعفة هو خير من حسنة العبد من كل وجه، يكفيك أن حسنة العبد التي عملها إنما هي توفيق من الله، وهذا يحتاج إلى حسنة يشكر عليها، والحسنة الجديدة التي يشكر عليها هي من توفيق الله - تبارك وتعالى -، ويكفيك أن هذه الحسنة التي يعملها لا تكافئ نعمة من نعم الله عليه، فهو لم يوفِّ بحق الله بإنعامه، وإفضاله عليه بهذه النعم الظاهرة، والباطنة، فهذه الأعمال التي يعملها هي تفضل من الله عليه، وهي لا تكافئ نعمة واحدة، ومع ذلك الله يجزيه عليها، بل يضاعف له الجزاء، وهذا من معاني اسمه الشكور كما قال الله - تبارك وتعالى -: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ [سورة البقرة:272] كاملاً غيرَ منقوص، وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ لا بتضييعه، ولا ببخسه، ولا بمطل في الجزاء، وقال هنا: وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يعني بواحدة، وهذا من لطف الله - تبارك وتعالى-: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [سورة الأنعام:160] وأما السيئة فواحدة، وفي الآية الأخرى قال: وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة النمل:90]، والسيئة هنا في هذه الآية فسرت بالشرك، السيئة العظيمة التي تستحق الوصف الكامل بالسوء، فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ فهذا إنما يكون لأهل الإشراك، ولهذا فسرها كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - بهذا المعنى، وإلا فإن سائر السيئات قد تُكفر بأمور متنوعة كما هو معلوم.

  1. رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، برقم (2865).
  2. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، برقم (91).