الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُل رَّبِّىٓ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ۝ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ۝ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة القصص:85-88].

يقول تعالى آمرًا رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - ببلاغ الرسالة، وتلاوة القرآن على الناس، ومخبرًا له بأنه سيرده إلى معاد وهو يوم القيامة، فيسأله عما استرعاه من أعباء النبوة؛ ولهذا قال: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ أي: افترض عليك أداءه إلى الناس".

 قوله هنا: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ قال: أي افترض عليك أداءه إلى الناس؛ يعني افترض عليك البلاغ، تبليغ الوحي، وبعضهم كالزجاج فسره بفرض العمل به عليه ﷺ فرض عليك ما يوجبه القرآن، وعامة المفسرين فسروا ذلك بالإنزال، قالوا: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ يعني أنزله عليك، وهذا الإنزال له متطلبات، وله لوازم، من هذه اللوازم البلاغ، ومن هذه اللوازم العمل بمقتضاه، فكأن الذين فسروه بالعمل أو بالبلاغ نظروا إلى لفظ "فرض" ففهموا منه معنى الإيجاب على ظاهره، ومن قال: إن المقصود الإنزال يكون ما قاله الآخرون من فرض البلاغ، أو فرض العمل من قبيل التفسير باللازم، يعني إذا فسرنا فَرَضَ بمعنى أنزل فيكون قول من قال: فرض العمل، أو فرض البلاغ من قبيل التفسير باللازم؛ لأن إنزاله له مقتضيات ولوازم من العمل، والبلاغ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ [سورة المائدة:76]، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [سورة الزخرف:43].

"لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ أي: إلى يوم القيامة فيسألك عن ذلك كما قال تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [سورة الأعراف:6]، وقال: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ [سورة المائدة:109]، وقال: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [سورة الزمر:69]".

قوله: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قال: إلى يوم القيامة، هذا قال به كثير من المفسرين من السلف مثل مجاهد وعكرمة، والزهري والحسن، واختاره الزجاج من أهل المعاني.

"روى البخاري في التفسير من صحيحه عن ابن عباس - ا -: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قال: إلى مكة.

وهكذا رواه النسائي في تفسير سننه، وابن جرير وهكذا روى العَوْفيّ، عن ابن عباس: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ أي: لرادك إلى مكة كما أخرجك منها.

وقال محمد بن إسحاق، عن مجاهد في قوله: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ: إلى مولدك بمكة".

هذا كالذي قبله إلى مولدك بمكة، وإلى مكة لا فرق، وهذا القول نُسب إلى جمهور المفسرين، يعني أن ذلك وعد للنبي ﷺ بأن يرجعه الله - تبارك وتعالى - إلى أرضه التي هاجر منها, ومعلوم أن سورة القصص من السور المكية، ويذكرون استثناءات لكن هذه الاستثناءات تحتاج إلى دليل، وعامة ما يذكر إنما هو بالنظر إلى المعنى، يعني مثل هذه الآية إذا فُسرت بهذا التفسير لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ، فإن بعضهم بالنظر إلى هذا المعنى سيقول: إن هذه الآية مدنية فهي وعد له بعد الهجرة بأن يرجعه الله إلى مكة، فخروجه - عليه الصلاة والسلام - من مكة ليس هو آخر العهد بها، وهذا كما قال الله ليوسف - عليه الصلاة والسلام - لما ذهب به إخوته ليلقوه في البئر قال: وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [سورة يوسف:15] أي إلقاؤك في البئر ليس هو النهاية، ستدور الأيام، وسيأتي اليوم الذي ستقول لهم: ألم تذكروا حينما فعلتم ما فعلتم؟ معنى ذلك أنه سيقول لهم هذا في موقف المنتصر، ولهذا قال لهم فيما بعد: هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ [سورة يوسف:89]، فذكّرهم، فهذا تطمين له، فيوسف ﷺ كان عنده وعد من الله، علم أن إلقاءه في البئر ليس هو النهاية، وأن الأمور سترجع حتى يكون له الظهور على إخوته، ويخبرهم بما فعلوا لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا، فالمقصود هنا لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ أي إلى مكة على هذا التفسير، فيقول هؤلاء: إن هذه الآية مدنية يخبر الله بها نبيه ﷺ أنه سيرجع في النهاية إلى مكة، ورجوعه إلى مكة يعني انتصاره، وظهوره على المشركين؛ لأنه لا يمكن أن تفضي القضية إلى مصالحة بين النبي ﷺ والمشركين يحصل معها ترك، أو فعل ما طلبوه وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [سورة القلم:9] المتاركة أن يترك آلهتهم، ويترك دينه؛ فيرجع ويعيش معهم في مكة لا يتعرض لهم، ولا يتعرضون له، تعايُش كما يقال، لكن هذا لا يمكن، فلا بد من الدعوة إلى التوحيد وهم لن يتقبلوا ذلك، ومن ثم فإن رجوعه مرة أخرى إلى مكة يعني انتصاره، فالشاهد أن هؤلاء غالباً يقولون: الآية مدنية باعتبار المعنى، وهذا غير صحيح, وإذا فسرت بهذا المعنى - مع أن هذا المعنى هو أحد الأقوال - يمكن أن يقال: إنها أيضاً مكية؛ لأن الأصل في السورة المكية أن جميع الآيات مكية إلا ما دل الدليل عليه، لو فسرت بأن المقصود بالرد يعني إلى مكة لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ أي: مكة فيقال: هذا مما نزل قبل وقوع حكمه، والمقصود بالحكم ليس الحلال والحرام، وإنما حكمه يعني مقتضاه، وهناك آيات نزلت قبل وقوع مقتضاها مثل: جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ [سورة ص:11].

وكلام عمر في مثل هذا: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر:45] ما كان في مكة جمع، وكان المسلمون في حال من الاستضعاف، فلما كان يوم بدر كان النبي ﷺ يثب في الدرع، ويردد هذه الآية، وهكذا في عدد من الآيات التي قيل: إنها مدنية باعتبار المعنى، فهذا فيه نظر، وسيأتي في سورة العنكبوت ما هو أوضح من هذا في الكلام على المنافقين في سورة مكية، مع أن المشهور أنه لا وجود للنفاق في مكة قبل الهجرة، وهذه المقولة المشهورة جداً التي لا تكاد تجد ما يخالفها فيها نظر، فحمل الآيات على أنها نازلة بمكة أو بالمدينة باعتبار المعنى فيه نظر، - والله تعالى أعلم - فهذان معنيان في قوله: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ القيامة أو إلى مكة، وهذا منسوب إلى الجمهور.

"ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ بالموت، وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت، وتارة بالجنة التي هي جزاؤه، ومصيره على أداء رسالة الله، وإبلاغها إلى الثقلين: الجن، والإنس، ولأنه أكمل خلق الله، وأفصح خلق الله، وأشرف خلق الله على الإطلاق.

القول بأن ذلك يعني الجنة هو يرجع إلى القيامة لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ يعني الآخرة فهو ميعاد، قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ [سورة سبأ:30] قال: وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره - عليه الصلاة والسلام - قال به جماعة من السلف من الصحابة فمن بعدهم كأبي سعيد الخدري وأرضاه، وأبي مالك، وقال جماعة من السلف، ومنقول عن مجاهد وأبي صالح هذا القول: إن المقصود مكة، وبعضهم فسره بغير هذا جميعاً، بغير هذه الأقوال كلها، ففسَّر المعاد بالعادة، وليس الموعد، لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ: يعني إلى عادتك لرادك إلى عادتك من الموت، أو إلى عادتك حيث ولدت يعني بمكة، قال: إن المعاد هنا ليس من العود وإنما من العادة، معاد يعني متعود، تقول: هذا معاد فلان يعني عادته، والشيء الذي اعتاده، إلا إذا فسر الرد هنا بالتصيير لَرَادُّكَ أي مُصيِّرك، فحتى لا يكون هناك تكرار: مصيرك إلى معاد، فيفسر المعاد بالعود لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ أي مكة مثلاً، فالمعاد فسر بالعادة، وفسر بالعود، وعلى كل واحد من هذين التفسيرين اختلف في ما يراد به: إلى عادتك من الموت، إلى عادتك إلى المنزل، والمكان الذي ولدت فيه، ونشأت فيه، أو إلى الموت، وفي الثاني إِلَى مَعَادٍ أي موعد وهو الموت، أو الآخرة الجنة مكة، والذي يميل إليه ابن جرير - رحمه الله - أن المعاد هنا بمعنى العادة، مع أن هذا خلاف قول عامة المفسرين سلفاً وخلفاً.

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هو من أحسن من يتكلم على طريقة توجيه الآيات فهو في غاية الأهمية، فروي أن المقصود بيت القدس، لكن النبي ﷺ خرج من مكة ولم يخرج من بيت المقدس، فابن كثير يوجه القول بأنه مَعَادٍ يعني بيت المقدس، هذه الأقوال المروية عن ابن عباس - ا -  لا تخالف تفسيره المعاد بيوم القيامة باعتبار أن بيت المقدس وبلاد الشام عموماً هي أرض المحشر؛ لأنه حينما تسمع مثل هذا القول لأول وهلة لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ أي بيت المقدس تقول: لا علاقة لبيت المقدس بما نحن فيه، فيقال: هذا مرتبط بالتفسير الآخر وهو أنه يوم القيامة، فذاك بلاد الشام أرض المحشر، فهذا مفيد في توجيه الأقوال، فبعض الأقوال ربما الإنسان يستبعدها لأول وهلة.

"وقوله: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: قل لِمَنْ خالفك وكذبك يا محمد من قومك من المشركين، ومَنْ تبعهم على كفرهم؛ قل: ربي أعلم بالمهتدي منكم ومني، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار، ولِمَنْ تكون العاقبة والنصرة في الدنيا، والآخرة.

ثم قال تعالى مذكِّرًا لنبيه نعمته العظيمة عليه، وعلى العباد إذ أرسله إليهم: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ أي: ما كنت تظن قبل إنزال الوحي إليك أن الوحي ينزل عليك، إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي: إنما نزل الوحي عليك من الله من رحمته بك، وبالعباد بسببك، فإذا منحك بهذه النعمة العظيمة فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا أي: معينًا لِلْكَافِرِينَ أي: ولكن فارقهم، ونابذهم، وخالفهم".

في قوله - تبارك وتعالى -: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مثل هذا يذكر على سبيل التنزل هو يعلم - عليه الصلاة والسلام - أنه على هدى، ولكنهم لا يسلّمون له ظاهراً بذلك، فيقول: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ فهذا يقال: للمجادلين بالباطل الذين لا ينقادون للحق كما في قوله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سورة سبأ:24]، فأحدنا على حق، والآخر على باطل، ولم يقل: إني على الحق، وأنتم على الباطل، فالذي لا يقبل الحق، ولا ينقاد إليه، ولا يثمر معه الجدال؛ لربما لا يوقف معه في مثل هذه الأمور، وقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ أداة الاستثناء هنا "إلا"، والاستثناء منقطع بمعنى لكن إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ أي معيناً للكافرين، والفاء هذه مشعرة بالتعليل، وتدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، فبهذا الإنعام عليك بإنزال الكتاب فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ لا تكونن معيناً لهم، وهكذا ينبغي أن يكون العالم، ألا يكون ظهيراً للمجرمين.