الخميس 16 / شوّال / 1445 - 25 / أبريل 2024
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ الٓمٓ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"تفسير سورة آل عمران، وهي مدنية؛ لأن صدرها إلى ثلاث، وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران، وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة كما سيأتي بيان ذلك عند تفسير آية المباهلة منها - إن شاء الله تعالى -، وقد ذكرنا ما، ورد في فضلها مع سورة البقرة في أول تفسير البقرة". 
فقوله - رحمه الله  -: "وهي مدنية؛ لأن صدرها إلى ثلاث، وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران" هذا القول نقل عليه بعض أهل العلم الإجماع ، ولم أقف على من خالف القول بأنها مدنية.
وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : "لأن صدرها إلى ثلاث، وثمانين آية" هذا فيه إشارة إلى أن السورة تعتبر مكية، أو مدنية باعتبار صدرها.
ولا شك أن السورة إذا نزلت جميعاً قبل الهجرة يقال لها: مكية، وإذا نزلت جميعاً بعد الهجرة فيقال: إنها مدنية، وهذا الكلام فيما إذا جعلنا الضابط هو النزول قبل الهجرة، وبعد الهجرة لكن الكلام في كثير من السور التي يقال: إن بعض آياتها نزلت بمكة، والبعض الآخر في المدينة فالضابط في القول بأنها مكية، أو مدنية إما باعتبار نزول أكثر الآيات، أو باعتبار أول ما نزل منها - وأول ما نزل قد لا يكون هو صدر السورة -،  أو أن العبرة في ذلك هو صدر السورة، فإن كان صدرها مكياً قيل: هي مكية، وإن كان صدرها مدنياً قيل: هي مدنية، وهذا الأخير هو الأقرب، - والله تعالى أعلم -، وهو الذي أشار إليه ابن كثير - رحمه الله -.
"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ الم ۝ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۝ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ۝ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [سورة آل عمران:1-4].
قد ذكرنا الحديث الوارد في أن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وقوله: الم ۝ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ عند تفسير آية الكرسي.
وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: الم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته، وتقدم أيضاً الكلام على قوله: اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، في تفسير آية الكرسي."

مرات الإستماع: 0

"يقول الإمام ابن جزيٍّ الكلبي في صدر سورة آل عمران: نزل صدرها إلى نيّفٍ، وثمانين آية، لما قدم نصارى نجران المدينة المنورة يناظرون رسول الله ﷺ في عيسى - [1]."

سورة آل عمران: هي من السور المدنية بالاتفاق، وهذا هو الاسم الثابت الوحيد لها، وتسمى مع سورة البقرة: بالزهراوين، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ[2]

وهذه السورة الكريمة تتحدث عن موضوعين رئيسين - وإن وجد جوانب أخرى في مضامين السورة -:

 الموضوع الأول: هو ما يتعلق بأهل الكتاب لاسيما النصارى، فكما ذكر بأن صدر هذه السورة إلى نيِّفٍ، وثمانين آية، يقول: بأنها "نزلت لما قدم وفد نصارى نجران" فهذه الآيات في صدر هذه السورة تتحدث، وتركز على قضايا الوحدانية، تحتج على النصارى، وتبين حقيقة المسيح وما إلى ذلك.

الموضوع الثاني الرئيس فيها: هو ما يتعلق بغزوةِ أحد: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ . . . . [آل عمران:121] هي تتحدث عن وقعة أُحد في سياقٍ طويل تضمن قضايا تتعلق بأسباب النصر، والهزيمة، وما وقع للمسلمين في تلك الوقعة، وعزّاهم أحسن تعزية، وكان في مضامين تلك الآيات من الدروس، والعظات، والعبر ما لا يُقادر قدره - كما سيأتي -.

أما السورة التي تتحدث عن غزوة بدر - كما هو معلوم - فهي سورة الأنفال.

، وقوله: "نزل صدرها إلي نيِّفٍ، وثمانين آية لما قدم نصارى نجران المدينة المنورة، يناظرون رسول الله ﷺ في عيسى ".

قدوم وفد نجران إلى المدينة هذا ثابت لا إشكال فيه، وذلك في السنة التاسعة للهجرة، ولكن ما يتصل بالنزول - نزول صدر هذه السورة - بسبب هذا الوفد هذا لا يثبتُ فيه حديث، الروايات الواردة في ذلك لا تصح، فهنا رواية مرسلة عن الربيع بن أنس - رحمه الله - وفي إسنادها أيضًا من هو مضعَّف، هذا عند ابن جرير - رحمه الله - وكذلك أيضًا جاء ذلك في السيرة لابن إسحاق[3].

لكن العلماء يتتابعون على أن صدر هذه السورة نازلٌ في وفد نصارى نجران، يحتجُّ عليهم، ويردُّ عليهم، ودعاهم إلى المباهلة، هذا ذكره كثيرون، من هؤلاء: القرطبي[4]  وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[5] والحافظ ابن كثير[6] وغير هؤلاء كثير.

يقول: "لما قدم نصارى نجران المدينة المنورة، يناظرون رسول الله ﷺ".

لاحظ هنا التعبير: "قدم نصارى نجران المدينة المنورة" فسماها بهذا: "المدينة المنورة" بعض الناس يظنون أن هذه التسمية: - المدينة المنورة - أنه من الأسماء التي جرت على ألسن الناس في هذا العصر، وهذا غير صحيح، فتجد في كلام بعض المتقدمين مثل هذه التسمية، ولا أعني بالمتقدمين يعني السلف الصالح لا، وإنما من جاء بعدهم، وإنما أقصد بالمتقدمين يعني: أنهم ليسوا بالمعاصرين، كابن جزي - كما ترون هنا - وجاء مثل هذا التعبير أيضًا عند غيره، وإن كان قليلًا.

فالغالب: أنهم يقولون: المدينة النبوية، ولا يوجد محذور إذا قيل المدينة المنورة، ففي حديث أنس بن مالك  قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ﷺ المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن رسول الله ﷺ الأيدي، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا[7].

"الم [آل عمران:1] تقدم الكلام على حروف الهجاء، وقرأ الجمهور بفتح الميم هنا في الوصل؛ لالتقاء الساكنين نحو: من الناس، وقال الزمخشري: هي حركة الهمزة نُقِلَت إلى الميم[8]  وهذا ضعيف؛ لأنها ألفُ وصلٍ تسقط في الدرج."

قوله: "تقدم الكلام على حروف الهجاء في البقرة" وذكرنا هناك أن بعضهم ذكر فيها نحوًا من أربعين قولًا - يعني: الحروف المقطعة - وأن الأقرب في تفسيرها: أنه لا معنى لها في نفسها، ولكنها تشير إلى قضية الإعجاز، ولذلك لا تكاد تُذكر إلا، ويُذكر القرآن، أو الوحي بعدها، فهي تشير إلى قضية الإعجاز.

وذكرت ما قد يرد على هذا: أنه هل يوجد في القرآن شيءٌ لا معنى له؟  وقلت: إنه لا يوجد في القرآن شيءٌ لا معنى له من الألفاظ، والتراكيب، وأما الحروف - حروف التهجي - فإنه لا معنى لها في كلام العرب.

فهذه حروف تهجي، وليست بكلماتٍ، وألفاظ من ذوات المعاني، كما قال ابن مالك - رحمه الله -:

كلامنا لفظٌ مفيدٌ كاسْتقم - يعني كفائدة استقم، استقم أنت - واسمٌ، وفعلٌ، وحرف أيضًا جاء الكلمْ.

فهذه الثلاثة هي المقصود بالحرف: حرف المعنى، حروف المعاني، وليست حروف المباني، حروف المعاني مثل: على، وإلى، ومِنْ، ونحو ذلك، يقولون: الكلام اسمٌ، وفعلٌ، وحرفٌ جاء لمعنى، فهذه حروف تهجي لا معنى لها في نفسها.

قوله: "وقرأ الجمهور بفتح الميم هنا" - يعني من الم - في حال الوصل لالتقاء الساكنين، ميم ساكنة اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:2] فهنا الألف للوصل - كما هو معلوم - ورد على الزمخشري هنا يقول: لالتقاء الساكنين تُفتح الميم؛ لالتقاء الساكنين.

يقول مثل: "من الناس" "من الناس" أصلها: مِنْ ساكنة النون، فإذا وصلتها بما بعدها الناس تقول: مِنَ الناس، ما تقول: منْ الناس في حال الوصل؛ تلافيًا لالتقاء الساكنين، ورد على الزمخشري في قوله: بأنها حركة الهمزة نُقِلَت إلى الميم، هذه ألف وصل، وليست همزة، فهي تسقطُ في الدرج، يعني درج الكلام في حال الوصل، هذا معنى الدرج، إدراج الكلام يعني وصله، لما تصل الكلام.

  1.  تفسير الطبري (6/151).
  2.  صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، وقصرها، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، رقم: (804). 
  3.  انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/576). 
  4.  تفسير القرطبي (4/13).
  5.  مجموع الفتاوى (27/239).
  6.  تفسير ابن كثير (2/50).
  7.  أخرجه الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ رقم: (3618). 
  8.  تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/335).

 

مرات الإستماع: 0

هذه السورة الكريمة تُسمى بهذا الاسم الذي عُرف واشتُهر بسورة آل عمران؛ لأنه جاء ذكر آل عمران في ثنايا هذه السورة: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33]، والسورة قد تُسمى بشيء مما ذُكر فيها كسورة البقرة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، سورة آل عمران، وسورة المائدة، وسورة الإسراء، وسورة النحل، وسورة الكهف، وهكذا في سور كثيرة.

وقد تُسمى السورة بحاصل ما ذُكر فيها، وما قُصد منها وما تضمنته من غير ذكر لذلك اللفظ في ثناياها مثل سورة الإخلاص لم ترد هذه اللفظة في السورة، وقد تُسمى السورة بأولها الحمد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وهكذا.

والأصل في السور كما أشرنا في الكلام على أول سورة الفاتحة والبقرة أن أسماء السور توقيفية؛ بمعنى أن ذلك مُتلقى عن رسول الله ﷺ، مع أن الواقع أن بعض الأسماء التي تُذكر مما يكون للسورة أسماء متعددة أن بعض هذه الأسماء قد لا يثبت عن النبي ﷺ، وقد يكون ذلك من قبيل الأوصاف كما ذكرنا في الكلام على سورة الفاتحة في بعض أسمائها، حيث ذكر بعضهم لها أكثر من عشرين اسمًا، والواقع أن ما كل هذا من قبيل الأسماء.

فسورة آل عمران تُسمى بهذا الاسم بالاتفاق، وذلك ثابت عن رسول الله ﷺ في قوله: يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدّمه سورة البقرة، وآل عمران،[1] فسماها بآل عمران.

وكذلك أيضًا يُقال لها مع سورة البقرة: الزهراوان، وذلك لما ثبت عن النبي ﷺ: اقرءوا الزهراوين: البقرة، وسورة آل عمران...، [2]فهذه أسماء ثابتة.

ويؤخذ من هذه الأحاديث فضل هذه السورة، إضافة إلى ما ورد في أحاديث أخرى، أن النبي ﷺ يقول: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه...، والمقصود بأصحابه الذين يُلازمونه قراءة، وتدبرًا، وفهمًا، وعملاً، وتحاكمًا إليه، فهذا هو الصاحب، وليس الذي يهجره، وليس الذي يرفضه، يرفض العمل به، أو التحاكم إليه، هذا لا يكون صاحبًا له، ليس بذاك الذي يبحث عن مصحف يقرأ فيه إذا جاء رمضان، هذا لا يُقال إنه من أصحاب القرآن، وهنا في ذكر البقرة وآل عمران: تُحاجان عن صحابهما، فهذا يدل على الملازمة وكثرة القراءة؛ فإنه لا يُقال صاحب إلا لمن كان بهذه المثابة، يعني: يقرأ قراءة مستمرة، ويتفهم، ويتدبر، ويُمكن أن يُضاف إلى ذلك الحفظ، وهذا قد يكون ظاهرًا لمن تأمل في النصوص الواردة في الباب، يعني مما يُذكر فيه مثل هذا، وهكذا في قوله ﷺ: اقرءوا الزهراوين: البقرة، وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، -يعني: كالسحابتين- أو كأنهما غيايتان -يعني: الشيء الذي يُضلل فوق رأسك يُقال له غياية، أو كأنهما فرقان كالمجموعتين من طير صواف تُحاجان عن أصحابهما،[3] وهذا كما سبق.

وكذلك أيضًا في قوله ﷺ: يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة، وآل عمران.

وضرب لهم النبي ﷺ ثلاثة أمثال، قال: كأنهما غمامتانِ، أو ظُلتانِ سوداوانِ بينهما شرق، أو كأنهما حِزق من طير صواف، تُحاجان عن صاحبهما، يعني: الشيء الذي يُظلل من طير أو من غمامة أو غير ذلك.

وهكذا أيضًا كما في حديث أنس : "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جّد فينا"،[4] يعني: عظُم، هذا يدل على أنه ليس بمجرد القراءة، وإنما الحفظ إضافة إلى الفهم والفقه، إضافة إلى المُلازمة، تُحاجان عن صاحبهما، وهنا "جّد في أعيننا"، إذًا هذا يفقه ما يقرأ، سورة البقرة تتضمن كثيرًا من الأحكام، وفيها تقرير لأركان الإسلام.

وكذلك أيضًا سورة آل عمران فيها مما يتصل بالتوحيد والاعتقاد، والرد على المخالفين من أهل الكتاب، أما إذا اجتمع مع ما في سورة البقرة فيكون ذلك بيانًا لشرائع الدين من الأمور العلمية والأمور العملية، جّد في أعيننا، ولهذا كانوا حينما يقرأ القارئ منهم أو يحفظ، أو يتلقى السورة، كان يتفقه بما فيها، ولهذا كانوا يسمون القُراء يقولون ذلك لأهل العلم، فما كانوا يحفظون من غير فقه ولا فهم، "كانوا يقترئون من رسول الله ﷺ عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل"،[5] كما جاء عن أبي عبد الرحمن السُلمي فيما وصف من حال أصحاب النبي ﷺ هكذا كانوا يتلقون القرآن.

وهذه السورة من السور المدنية النازلة في المدينة بالاتفاق، وتتحدث عن قضيتين أساسيتين، جُل آيات السورة تدور حول قضيتين:

القضية الأولى: ذكر أهل الكتاب، والرد على النصارى، وقد وفدوا على النبي ﷺ من نجران، ففي هذه السورة مناقشات وردود طويلة على هؤلاء، وعلى دعواهم وعلى شُبهاتهم، الدعوى التي كانوا يدعونها أن إبراهيم كان ينتسب إلى إحدى الطائفتين اليهود أو النصارى، وهكذا أيضًا كل طائفة تدعي أنها على الحق، فجاء في هذا سياق طويل في هذه السورة يرد ردودًا مفصلة على هؤلاء، ويُبين ما هم فيه من الضلال والكفر لاسيما النصارى، سورة البقرة تضمنت ذكرًا مفصلاً لأحوال بني إسرائيل، وسورة آل عمران تحدثت عن النصارى.

القضية الثانية: كما تحدثت عن الجانب الآخر -أعني سورة آل عمران- وهو وقعة أُحد وما جرى فيها، وذكر ربنا -تبارك وتعالى- فيها من العِبر والعظات لأسباب النصر والهزيمة، وكذلك فيها عزاء بليغ لأهل الإيمان.

هذا الجملة، وإلا على سبيل التفصيل فالقضايا التي تناولتها هذه السورة قضايا كثيرة:

منها: ما يتصل بتقرير التوحيد، وكذلك ما يتعلق بالوحي والكتب التي أنزلها الله -تبارك وتعالى-، وتحدثت عن أحوال الناس بما يتصل بالمُحكم المُتشابه.

وكذلك أيضًا فيها من الردود على النصارى، وبيان ما هم عليه من الباطل، وبيّن ربنا -تبارك وتعالى- فيها أن الدين الحق الذي كان عليه جميع الأنبياء ولا يقبل سواه هو الإسلام، وأنه صِبغة الله.

وكذلك أيضًا تضمنت هذه السورة قضايا تتعلق بالولاء والبراء، وما إلى ذلك من جوانب يأتي ذكرها -إن شاء الله تعالى-.

لكن فيما يتعلق بمقصودها، مقصود السورة قضية التوحيد تُجليها، وتكشف الضلالات المخالفة لها، تُبين حقيّة دين الإسلام، وأنه الدين الصحيح، وهكذا الارتباط بالله ، والتوجه إليه، والثقة به، والتوكل عليه، ولزوم طاعته وطاعة رسوله ﷺ، وأن ذلك هو الطريق إلى النصر، وتجد ذلك في الكلام على وقعة أُحد، الطريق إلى التمكين والعز وأسباب الفشل والهزيمة هذا كله بتفصيل بديع. 

نشرع في هذه الليلة في الكلام على ما يُستخرج من الهدايات من سورة آل عمران، وقد افتُتحت هذه السورة بالحروف المقطعة الم [آل عمران:1]، وهذه الحروف كما مضى في الكلام على سورة البقرة أن الأقرب أنه ليس لها معنى في نفسها، ولكنها تُشير إلى قضية الإعجاز كأنه يقول: إن هذا القرآن مركب من هذه الحروف التي تركبون منها الكلام فأتوا بمثله، فهذا لربما يدل عليه أن هذه الحروف لا تكاد تُذكر في موضع من كتاب الله إلا ويُذكر القرآن بعدها، أو الوحي إلا ما ندر، والمواضع النادرة يوجهها العلماء بتوجيهات ترجع إلى هذا، الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، الم ۝ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۝ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:1-3]، وهكذا.

 في قوله -تبارك وتعالى-: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ۝ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:1-2]، فهنا لم يذكر الكتاب، ولكنه ذكر النعمة وهي: الوحي والنبوة، فهذا يرجع إلى الكتاب، وهكذا.

فهذا لعله أقرب وأرجح الأقوال -والله أعلم- والعلماء لهم في ذلك أقوال كثيرة جدًا، أوصلها بعضهم إلى أربعين قولاً، وكذلك في كلامهم على هذه الحروف من جهة أنواعها وأوصافها، لكن المقام هنا لا يحتمل إلى ذلك، وقد ذكرته تفصيلاً في الكلام على التفسير، كان ذلك قبل أكثر من عشر سنوات.

فهنا افُتتحت هذه السورة بهذه الحروف المقطعة، إشارة إلى التحدي، وهذه السورة كما ذكرنا تدور على موضوعين ومحورين أساسيين:

الأول: يتعلق بالنصارى والرد عليهم، والموضوع الآخر: هو ما يتعلق بغزوة أُحد، فبعض أهل العلم يقول: إن الافتتاح بالحروف المقطعة مناسب لما يُذكر بعده من الرد على أهل الكتاب من النصارى، وذلك أنها من جهة تُشير إلى التحدي، ومن جهة فإنها تجذب النظر من أجل التعرف على ما يُذكر بعدها، لما تُذكر هذه الحروف المقطعة كأن السامع ينجذب ذهنه لما سيُذكر بعد ذلك، فيكون ذلك أدعى إلى حضور القلب والاستشراف لما يذكره الله -تبارك وتعالى-، وهذا الذي يسمونه بحُسن الإبهام. 

  1. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، رقم: (805).
  2. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، رقم: (804).
  3. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، رقم: (804).
  4. أخرجه أحمد، رقم: (12215).
  5. أخرجه أحمد، رقم: (23482).