الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"تفسير سورة آل عمران، وهي مدنية؛ لأن صدرها إلى ثلاث، وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران، وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة كما سيأتي بيان ذلك عند تفسير آية المباهلة منها - إن شاء الله تعالى -، وقد ذكرنا ما، ورد في فضلها مع سورة البقرة في أول تفسير البقرة". 
فقوله - رحمه الله  -: "وهي مدنية؛ لأن صدرها إلى ثلاث، وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران" هذا القول نقل عليه بعض أهل العلم الإجماع ، ولم أقف على من خالف القول بأنها مدنية.
وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : "لأن صدرها إلى ثلاث، وثمانين آية" هذا فيه إشارة إلى أن السورة تعتبر مكية، أو مدنية باعتبار صدرها.
ولا شك أن السورة إذا نزلت جميعاً قبل الهجرة يقال لها: مكية، وإذا نزلت جميعاً بعد الهجرة فيقال: إنها مدنية، وهذا الكلام فيما إذا جعلنا الضابط هو النزول قبل الهجرة، وبعد الهجرة لكن الكلام في كثير من السور التي يقال: إن بعض آياتها نزلت بمكة، والبعض الآخر في المدينة فالضابط في القول بأنها مكية، أو مدنية إما باعتبار نزول أكثر الآيات، أو باعتبار أول ما نزل منها - وأول ما نزل قد لا يكون هو صدر السورة -،  أو أن العبرة في ذلك هو صدر السورة، فإن كان صدرها مكياً قيل: هي مكية، وإن كان صدرها مدنياً قيل: هي مدنية، وهذا الأخير هو الأقرب، - والله تعالى أعلم -، وهو الذي أشار إليه ابن كثير - رحمه الله -.
"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ الم ۝ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۝ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ۝ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [سورة آل عمران:1-4].
قد ذكرنا الحديث الوارد في أن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وقوله: الم ۝ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ عند تفسير آية الكرسي.
وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: الم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته، وتقدم أيضاً الكلام على قوله: اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، في تفسير آية الكرسي."

مرات الإستماع: 0

"الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2]: ردٌّ على النصارى في قولهم: إن عيسى هو الله؛ لأنهم زعموا أنه صُلب فليس بحيٍ، وليس بقيوم.

على كلِ حال، هذا باعتبار أن صدر السورة نزل في الرد على النصارى، مع أن في صدر هذه السورة أشياء هي رد واضح على اليهود أيضًا، ولذلك في كلام كثيرٍ من أهل العلم في مواضع - كما سيأتي - يقولون: هذا رد على اليهود، والنصارى، رد على أهل الكتاب، هذا خطاب لليهود، والنصارى لأهل الكتاب.

ولكن بناءً على أن صدر هذه السورة نزل في الرد على النصارى قال: "الْحَيُّ الْقَيُّومُ رد عليهم، لكن نحن قلنا: بأن صدر هذه السورة عمومًا، وكثير من الآيات التي فيها إلى آخر هذه السورة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ . . . [آل عمران:190] والخواتيم التي ختم بها هذه السورة - كما هو معلوم - تتحدث عن قضية التوحيد، وتُقرر الإلهية، توحيد العبادة لله - تبارك، وتعالى -.

فـ "الْحَيُّ الْقَيُّومُ هو ردٌ على النصارى" وهو أيضًا يدور حول هذا الموضوع الذي فيه إثبات الوحدانية لله - تبارك، وتعالى - لأن المعبود الذي ينبغي أن يُتوجه إليه يجب أن يكون حيًّا، وأن يكون قيومًا، يعني: القائم بنفسه - كما سبق في تفسير آية الكرسي - قيوم: قائم بنفسه، وكذلك هو مقيم لغيره، فلا قيام للخلق إلا بإقامته، وكذلك هو القائم على خلقه بأعمالهم، وأرزاقهم، وآجالهم، هذا معنى القيوم الْحَيُّ الْقَيُّومُ ومضى الكلام على هذا في "الغريب" وفي تفسير آية الكرسي.

مرات الإستماع: 0

اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2]، "الله" افُتتحت بهذا الاسم الكريم، وقد قلنا بأن الجمهور يقولون: بأنه الاسم الأعظم، وأن جميع الأسماء الحسنى ترجع إليه لفظًا ومعنى، قلنا لفظًا باعتبار أنها تكون معطوفة عليه تأتي بعده، ومن جهة المعنى أنه متضمن لجميع معاني الأسماء الحسنى، جميع الصفات التي تضمنتها الأسماء، فالمألوه الإله لابد أن يكون ربًا، وأن يكون رازقًا، وأن يكون خالقًا، وأن يكون حيًا، وأن يكون قيومًا، وأن يكون عليمًا وسميعًا وبصيرًا، وما إلى ذلك، فإنه لا يكون ناقصًا بوجه من الوجوه.

"الله" والافتتاح بهذا الاسم الكريم فيه ما فيه من تربية المهابة فهو أعظم الأسماء "الله" وقال بعده اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2]، لا معبود بحق سواه، فالله يتضمن صفة الإلهية، وهو مشتق على اختلاف في مادة اشتقاقه، وبعض المحققين يقولون: إنه مشتق من الإلهية، وهو يدل على هذه الصفة، فذكر بعده لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فذلك لتحقيق الوحدانية فهو منفرد بالإلهية جل جلاله وتقدست أسماؤه، لا معبود بحق سواه، وهذه أقوى صيغ الحصر كما هو معلوم النفي والاستثناء، أقوى الصيغ في اللغة، وعند الأصوليين هي هذه الصيغة.

الحصر له صيغ تتفاوت في القوة، هذه أقوى صيغة، وهذه أجل كلمة، وأعظم كلمة، كلمة التوحيد التي بها يُدخل الإسلام: ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة[1]، فهي مفتاح الجنة، وهي أصدق كلمة على الإطلاق.

وذكر هذه الجملة هنا في افتتاح هذه السورة له تعلق بما يُذكر بعد ذلك من الرد على النصارى الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، ثم قال: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2] ذو الحياة الكاملة، وهو القيوم القائم بنفسه، المُقيم غيره، لا قيام للخلق إلا بإقامته ، وهو أيضًا القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، فهذه من أجل الأوصاف وأعظمها كما سيأتي؛ وذلك أن هذين الاسمين كما ذكر بعض أهل العلم يستغرقان جميع الأوصاف، يعني: كما قلنا بأن "الله" يتضمن صفة الإلهية، وأن الإلهية تتضمن جميع صفات الكمال، وأنها ترجع إليها، فكذلك "الحي القيوم" معًا، يقولون: الحي يدل على كمال الصفات، والقيوم يدل على كمال الأفعال، فبكمال الصفات وكمال الأفعال يحصل الكمال المطلق، وذلك من جهة كمال الذات وكمال الصفات والأفعال، كل ذلك الحي القيوم، فلا تكون الحياة كاملة إلا إذا كانت سالمة من كل نقص، وكذلك أيضًا إذا كانت متضمنة للكمالات ولهذا في سورة البقرة في آية الكرسي كما مضى لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ[البقرة:255]، لما قال الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] نفى عنه السِنة والنوم، وذلك أن السِنة وهي مقدمة النوم وخثورته، بعضهم يُفسرها بالنُعاس، وبعضهم يُفرق بين السِنة والنُعاس، فيقولون: السِنة في الرأس، والنُعاس في العين والنوم في القلب، وعلى كل حال هما متقاربان السِنة والنُعاس، فنفى عنه السِنة؛ لأنها نقص في الحياة، ونفى عنه النوم؛ لأنه نقص أيضًا بالحياة، فالنوم نقص في الحياة؛ لأنه موته، وإنما يكون ذلك كمالاً في المخلوق لضعفه، وكذلك أيضًا لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة:255]، كذلك أيضًا الحُزن وقد ذكر شيخ الإسلام أنه نقص في الحياة، ولهذا قال ابن جرير -رحمه الله- في قوله تعالى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة:255] فسرها بمعنى عام قال: "لا تعتريه الآفات" يعني كأنه ذكر السِنة والنوم على سبيل المثال والتقريب، فلا يتطرق إليه نقص وآفة بوجه من الوجوه، فهذا يدل على كماله في ذاته، وكماله في أوصافه، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، فذلك هو الذي يصلح أن يكون الإله المعبود؛ لأنه لا يصلح للإلهية إلا من كان كاملاً، ولهذا في سورة الفاتحة كما سبق الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3]، هذه أوصاف مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، فجعل الحمد كله؛ لأن أل للاستغراق، كل الحمد لله، ولا يمكن أن يكون الحمد كله له إلا إذا كان كاملاً من كل وجه، فإنه لا يُحمد من كل وجه الحمد المُطلق الذي ليس فيه استثناء إلا من كان كاملاً الكمال المطلق الذي ليس فيه استثناء، لكن من يُحمد من بعض الوجوه يُقال: لكن هو كريم، هو خلوق، تصف أحدًا من الناس: هو قوي، هو غني؛ لكن فيه كذا، فالله -تبارك وتعالى- له الكمال المطلق. 

  1. أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب في التلقين، رقم: (3116).