الجمعة 17 / شوّال / 1445 - 26 / أبريل 2024
نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَىٰةَ وَٱلْإِنجِيلَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ يعني نزل عليك القرآن يا محمد بالحق أي لا شك فيه ولا ريب، بل هو منزل من عند الله أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا [سورة النساء:166]".

في قوله - تبارك، تعالى -: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ بعضهم يقول: بالصدق، ويمكن أن يقال: نزله إنزالاً متلبساً بالحق، ولا إشكال سواء قيل: بالصدق، أو قيل: نزله متلبساً بالحق؛ فالمعنى متقارب.
والتعبير بالتنزيل العلماء يتكلمون فيه على التنجيم، أي أن فيه إشارة إلى أن القرآن نزل منجماً؛ لأنه قال: نَزَّلَ فهي بخلاف أَنزَلَ [سورة آل عمران:7] وعلى كل حال قد جاء التعبير بهذا وبهذا.

"وقوله: مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ أي من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد الله الأنبياء - عليهم أفضل الصلاة، وأتم التسليم - فهي تصدقه بما أخبرت به، وبشرت في قديم الزمان، وهو يصدقها؛ لأنه طابق ما أخبرت به، وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد ﷺ وإنزال القرآن العظيم عليه".

يلاحظ أنه فسر قوله تعالى: مُصَدِّقاً بأوسع معناه، أي أن هذا القرآن مصدق لما فيها من الهدايات، والحقائق التي أخبر الله عنها، يعني مما لم يقع فيه التحريف، وأنها من عند الله وكذلك مصدقاً لها باعتبار أنه طابق ما أخبرت به من الوعد بإرسال محمد ﷺ وإنزال القرآن عليه.
ولهذا يذكر في وجه الامتنان بأميِّته ﷺ أي ببعثه أمياً كما في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [سورة الجمعة:2] يذكر أنه ﷺ يكون بذلك مصدقاً لما جاء من وصفه في الكتب السابقة، وهذا أحد الأوجه، وعلى كل حال فهو مصدق لها باعتبار أن فيه تصديق ما جاء فيها، بإقراره والشهادة لتلك الحقائق التي أخبر الله عنها، وأن تلك الكتب من عند الله - تبارك وتعالى - إضافة إلى أن مجيئه هو تصديق لذلك الخبر الذي كان في تلك الكتب عن نزول القرآن على محمد ﷺ. 

"وقوله: وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ أي على موسى بن عمران وَالإِنجِيلَ أي على عيسى ابن مريم - عليهما السلام - ".

التوراة هو الكتاب المعروف الذي نزل على موسى ﷺ وهذه الكلمة إذا قلنا: إنها ليست عربية - وهذا هو الظاهر - فمعنى ذلك أننا لسنا بحاجة لا إلى تعليل الاسم ولا إلى تفسيره، والعلماء - رحمهم الله - منهم من حاول أن يفسره، فبعضهم جعل ذلك من التورية وهي: المعاريض، ووجَّه ذلك بأن في التوراة من المعاريض شيئاً كثيراً، بمعنى أمور غير مصرِّحة بالمراد، ولكن مراد الله   يفهمه من كان من أهل العلم بالكتاب، ومنهم من يقول: إنها بمعنى الضياء، والنور، من: وَرَى الزَّند، بمعنى أوقده، وأضاء به، أو نحو ذلك، وكذلك يقولون في الإنجيل، وبعضهم يقول: الإنجيل من النجل، وهو الأصل، باعتبار أنه أصل للحكم، والعلوم، وبعضهم يقول: الإنجيل من النجل، وهو الاستخراج، تقول: نجلت الماء بمعنى استخرجته من البئر، وذلك لما حواه من العلوم والحكم، والهدايات، وبعضهم يقول: من التناجل، وهو بمعنى التنازع؛ لأنهم اختلفوا فيه، وكل هذا لا دليل عليه، وإذا قلنا: إن هذه الكلمات ليست عربية فلا حاجة إلى تفسيرها أصلاً، بل لا يصح أن تفسر بمثل هذا من كلام العرب، يعني من جهة الاشتقاق، ومسألة كون الأسماء الأعجمية موجودة في القرآن هذا بالإجماع، ولا إشكال في ذلك، والكلام على هذا الأمر موجود في أصول الفقه عند الكلام على مسألة هل يوجد في القرآن شيء أعجمي أم لا، والخلاصة أن الأسماء متفق على أنها موجودة؛ لأنه يعبر بها كما هي بأي لغة، وأما ما يتعلق بالتراكيب فالإجماع على أنه لا وجود لها في القرآن، وبقي الكلام على غير ذلك من الأسماء المنكَّرة، مثل: قسورة، وإستبرق، ومشكاة، ونحو ذلك:

ما كان منه مثل إسماعيل ويونس قد جاء في التنزيل
إن كان منه واختيار الأكثر والشافعي النفي للمنكر

فكلامهم، ونزاعهم إنما هو في المنكر مثل: إستبرق، ونحوها وليس في الأعلام وليس في التراكيب، فإذا سأل سائل: هل يوجد في القرآن أعجمي؟ فالجواب يكون بهذا التفصيل، فيقال: القسمة ثلاثية، والمختلف فيه هو الوسط - والله أعلم - وأنا إنما ذكرت هذا للفائدة، وذلك أنك تجد بعض الأشياء الأعجمية، العلماء يحاولون أحياناً تفسيرها، وبيان اشتقاقها، ولكن إذا تقرر أن أصلها أعجمي فلا محل لتفسيرها أصلاً.

مرات الإستماع: 0

"الْكِتَابَ هنا: هو القرآن."

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:3] هذا بالاتفاق أن الكتاب الذي هنا يُقصد به: القرآن.

"بِالْحَقِّ: أي: تضَّمن الحق من الأخبار، والأحكام، وغيرها، أو بالاستحقاق."

قوله: بِالْحَقِّ هذه الباء يجوز أن تكون بمعنى: أنه متلبسٌ بالحق نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ يعني: متلبس بالحق، مشتملٌ  على الحق، فهو نازلٌ بحق، لا بالباطل نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ متلبسٌ بالحق، ويكون ذلك صفةً للكتاب.

ويَحتمل أن تكون متعلقة بالتنزيل، أي: أن نزوله حق، وليس بباطل نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ نزَّله، فإنزاله حق، والمعنى الذي قبله أنه: أنزله متلبسًا، متضمنًا، مشتملًا على الحق، وليس الباطل، فلا سبيل للباطل إليه.

 يقول: "أي: تضمن الحق من الأخبار، والأحكام، وغيرها" فهذا بمعنى: أنه متلبس بالحق، تنزيل متلبس بالحق.

 يقول: "أو بالاستحقاق" هذا معنًى آخر غير المعنى الأول.

 يعني: المعنى الأول: يرجع إلى ما ذكرنا من كونه متلبسًا بالحق.

 المعنى الثاني هذا الذي ذكره، وهو: "أو بالاستحقاق" يعني: بالاستحقاق، والوجوب، وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم، ودعوتهم إلى الله - تبارك، وتعالى - هذا معنى بِالْحَقِّ على هذا القول، يعني: بالاستحقاق، والشمول، والوجوب، شمول المنفعة للناس في هدايتهم، ودعوتهم إلى ربهم، وخالقهم .

 فالحق: هو الشيء الثابت نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ بالاستحقاق، الوجوب، ونحو ذلك من المعنى، والأول أشهر، الأول هو المشهور، لكن هذا معنى قوله: "أو بالاستحقاق". 

"مُصَدِّقًا: قد تقدم في مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [البقرة:41] بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:4]."

"مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ في سورة البقرة، وذلك مصدق لهذه الكتب مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ - كما ذكرنا من قبل -: إما باعتبار أنها أخبرت به فكان نزوله مصدقًا لها بهذا الاعتبار، أو باعتبار أنه حاكمٌ عليها بالصدق، وشاهد، أو باعتبار أنه جاء موافقًا لها، ففي القرآن أشياء موافقة لما في كتبهم، فهو مصدقٌ لها بهذا الاعتبار مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ هذه الكتب أخبرت عنه، وجاء كما أخبرت، فهو مصدق بهذا الاعتبار، أو أنه حاكمٌ عليها، أو أنه جاء في مضامينه ما هو موافقٌ لها، فهو مصدق لها لوجود هذا التوافق مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يعني: من الكتب.

"بَيْنَ يَدَيْهِ الكتب المتقدمة: التوراةَ، والإنجيل أعجميان، فلا يصحُ ما ذكره النحاة من اشتقاقهما، ووزنهما."

وهذا كثير، حتى في بعض الأسماء، الأشخاص الأعجمية، يقولون: مشتق من كذا، في اسم مثلًا: فرعون تجدون يذكرون في الاشتقاق له، وهو الواقع أنه أعجمي، اسمٌ أعجمي، وهكذا يذكرون في غيره، فإذا كان الاسم أعجميًّا فلا حاجة للكلام في اشتقاقه؛ لأنه غير مشتق، وهذا ظاهر، يقولون: بأنّ التوراة أصلها من الضياء، والنور، من ورى الزَنْد إذا أضاء، هذا فيه إشكال؛ لأنه اسمٌ أعجمي غير مشتق من ورى الزند، وكذلك قول من قال: بأنها مأخوذة من التورية، توراة تورية، فإن أكثرها معاريض، هذا غير صحيح.

وهكذا قول البعض في الإنجيل: بأنه من النَجْل، وهو الأصل، فهو أصل لعلوم، وحكم، وبعضهم يقول: من نجلت الشيء إذا استخرجته؛ لأنه مُستخرجٌ به علوم، وحكم، بعضهم يقول غير هذا في التناجُل، يعني في تنازع الناس، واختلافهم فيه، فهو اسم غير عربي، فلا حاجة لذكر مثل هذه التعليلات في التسمية، وأنه مشتقٌ من كذا، أو كذا.

"وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4] يعني القرآن، وإنما كرر ذكره؛ ليصفه بأنه المفرقُ بين الحق، والباطل، ويحتملُ أن يكون ذكره أولًا على وجه الإثبات لإنزاله لقوله: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثم ذكره ثانيًا على وجه الامتنان بالهدى به كما قال في التوراة، والإنجيل."

يعني: الآن الفرقان هل المقصود به القرآن؟ فيكون ذَكره مرتين نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ قلنا: بالإجماع أنه القرآن.

ثم قال: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ثم قال: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ فيكون ذكره مرتين، إذا كان ذكره مرتين لماذا كرر ذكره؟ فهو يعلل هنا على هذا المعنى، أو على هذا القول، يعلل سبب التكرار، لكن هل الفرقان هنا يُراد به القرآن فهو مكرر حتى يُبحث له عن تعليل، أو لا؟

شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ذكر أنه يتناول ما يَفرقُ بين الحق، والباطل[1] أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ كآيات الأنبياء، فهي تفرق بين الحق، والباطل، وتبين الصادق من الكاذب، وكذلك القرآن فهو آية عظيمة لنبوةِ محمدٍ ﷺ هذا بالإضافة إلى كونه فرقًا بين الحق، والباطل ببيانه، فالقرآن مفرقٌ بين الحق، والباطل.

وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كما أنه أدخل القرآن في الفرقان، يعني لفظ الفرقان عنده يشمل القرآن، ويشمل كل ما يحصل به الفرق بين الحق، والباطل كمعجزات الأنبياء، دلائل النبوة عمومًا، وكذلك أيضًا النصر الذي يكون لأنبيائه، ورسله - عليهم الصلاة، والسلام - ولأتباعهم، وإهلاك أعدائهم على مر العصور، فهذا عنده من الآيات، فهو داخلٌ في الفرقان، كما قال الله : وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ [الأنفال:41] فسمى يوم بدر بيوم الفرقان يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [الأنفال:41] فالفرقان عام لكلِّ ما يحصلُ به الفرق بين الحق، والباطل، فيدخل فيه القرآن، ويدخل فيه آيات الأنبياء، ويدخل فيه أيضًا نصر الله لأنبيائه، ورسله، وأتباعهم، فكل ذلك يحصل به الفرق بين الحق، والباطل، فتارةً يكون ذلك بالبيان، والبرهان، وتارةً يكون ذلك بالميدان، بأرض المعركة.

فهذا معنى، وعليه فلا تكرار، يعني ذكر الكتب الثلاثة: القرآن، التوراة، والإنجيل، وذكر إنزال الفرقان فهو أعم من ذلك، ما يحصل به الفرق بين الحق، والباطل مطلقًا، سواءً كان مما نزَّله من الآيات المتلوة، أو كان ذلك من غيره مما يحصل به الفرق بين الحق، والباطل.

وكذلك أيضًا ابن جرير - رحمه الله - ذكر أن بعضهم وجه تأويله إلى أنه فصلٌ بين الحق، والباطل، فيه فصل بين الحق، والباطل في أمر  - عليه الصلاة، والسلام -[2].

هذا باعتبار النظر إلى أن صدر السورة نازل في الرد على النصارى، ومجادلتهم، فهؤلاء مثل هذه المواضع يحملونها على هذا الأصل، فيقولون: أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ يعني: الذي يفصل في أمر عيسى ﷺ حيث ادَّعى اليهود فيه دعاوى قبيحة، وادَّعى النصارى فيه البنوة، أو الإلهية على اختلافٍ بينهم في ذلك، وبعضهم - كما يقول ابن جرير - فسر ذلك أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ باعتبار أنه فصل بين الحق، والباطل في أحكام الشرائع، واختار ابن جرير - رحمه الله - الأول، حاصل قوله - رحمه الله - يرجع إلى أن الفرقان ما يحصل به الفرق بين الحق، والباطل، والهدى، والضلال، ولا يختص ذلك بالقرآن، ولذلك ذكره بعد هذه الكتب، يعني: كلام ابن جرير - رحمه الله - موافق لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وبناءً عليه ليس ذلك من قبيل التكرار، وهذا يؤيده القاعدة المعروفة: "أن التأسيس مقدمٌ على التأكيد" فكون اللفظة في الموضع الثاني يكون لها معنًى آخر أولى من أن تكون بنفس المعنى الأول، ويُقال ذكره مثلًا لأهميته، أو كما ذكر هنا: "وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ" "إنما كرر ذكره؛ ليصفه بأنه المفرق بين الحق، والباطل، ويحتمل أن يكون ذكره أولًا على وجه الإثبات لإنزاله وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ثم ذكره ثانيًا على وجه الامتنان بالهدى كما قال: في التوراة، والإنجيل".

لكن حمله على ما ذُكِر - والله أعلم - أقرب، يعني: أنه ما يحصل به الفرق بين الحق، والباطل، ويكون القرآن داخلًا في ذلك - والله أعلم -. 

  1. مجموع الفتاوى (9/318).
  2. تفسير الطبري (6/163).

مرات الإستماع: 0

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ [آل عمران:3]، لاحظ هذه الآية وما لها من تعلق بما قبلها وما بعدها، مما يسُمى بالمناسبة، فذكر وحدانيته وكماله، وهذا فيه إشارة كما ذكرنا إلى الرد على النصارى الذين نسبوا له الصاحبة والولد، وقالوا: إنه ثالث ثلاثة، فهنا قال: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:3]، هم لا يؤمنون بالقرآن، ولا ما تضمنه القرآن من تقرير الوحدانية والوحي والنبوة والرسالة للرسول ﷺ.

مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فهو كذلك أيضًا مُصدق للكتب التي تقدمته، وهم يؤمنون بهذه الكتب في الجملة، يعني: النصارى يؤمنون بالإنجيل والتوراة، واليهود يؤمنون بالتوراة، فذكر هذين الكتابين: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ، قلنا هذه السورة في سياق طويل ترد على النصارى في نصفها الأول وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ فالنصارى يؤمنون بالتوراة والإنجيل، فناسب ذكر التوراة والإنجيل في صدر هذه السورة، وهنا حينما يذكر التوراة والإنجيل مصدقًا أن هذا القرآن يُصدقها هو مُصدق لما بين يديه من جهة أن هذه الكتب أخبرت عن مبعث النبي ﷺ، وعن صفته، فجاء مصدقًا لها.

وكذلك أيضًا أخبرت هذه الكتب عن شريعته، فجاء مصدقًا لها، وأخبر القرآن بأشياء مما كان من شرائع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مما يجدونه في كتبهم، ومن أحوال الأنبياء، وأوصافهم وأخبارهم، ومن أخبار هؤلاء الأمم من بني إسرائيل وغيرهم مما يجدونه في كتبهم ويعرفونه، فهو بهذا الاعتبار مصدق لما يجدونه في كتبهم، فهو مُحقق لها من جهة الوعد الذي فيها أنه سيأتي نبي من صفته كذا وكذا يُبعث في أرض كذا، فجاء مصدقًا.

وكذلك ما تضمنه من الحقائق والأخبار والشرائع، وما إلى ذلك، هو موافق لما في تلك الكتب، فهم يجدون ذلك في كتبهم، هذا بالإضافة إلى أن أصول الشرائع الأصول الكِبار واحدة، وإن اختلفت في التفاصيل، يعني: مثلاً الصلاة موجودة عندهم، الصيام موجود عندهم كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، وكذلك الحج والزكاة كل ذلك كان موجودًا عندهم، فهو مصدق لها، وأنها من عند الله -تبارك وتعالى- يعني في أصلها قبل التحريف، فكل هذا يدخل في قوله: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:3].

ولاحظ قوله -تبارك وتعالى-: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:2-3]، فمثل هذا في ذكر هذه الأسماء التي تضمنت جميع الكمالات يذكر بعدها تنزيل الكتاب، هذا يدل على شرف هذا الكتاب، وذلك يستلزم أيضًا شرف المُنزل عليه نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، فهذا الكتاب له شأن عظيم، نزله العظيم الأعظم الذي له الكمال المطلق.

ولاحظ هنا أن قوله: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ نزّل على وزن فعّل هذا يدل على أن التنزيل كان شيئًا بعد شيء، يعني: بالتدرج، القرآن نزل مُنجمًا، لاحظ الدقة في العبارة، بينما الكتب الأخرى التوراة والإنجيل قال: وأنزل فهذا يدل على أن الإنزال كان دفعة واحدة، لم تكن منجمة، فهذا الفرق بين الصيغتين نَزَّلَ عَلَيْكَ فالقرآن نزل نجومًا وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ [الإسراء:106]، بينما الكتب السابقة كانت تنزل جملة واحدة، فتنزيله مُنجمًا كان نعمة على هذه الأمة؛ لأنها أمة أُمية لا تقرأ فنزله نجومًا؛ ليكون ذلك أيسر في الحفظ والفهم والعقل عن الله -تبارك وتعالى-، وليكون ذلك موافقًا للحوادث، وفيه ما فيه من تربية الأمة شيئًا بعد شيء، التدرج في تشريع الأحكام بخلاف ما لو نزل جملة واحدة.

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:3] يعني: إنزالاً مُتلبسًا بالحق، ولفظ الإنزال يدل على نزول من أعلى إلى أسفل، وهذا يتضمن إثبات صفة العلو لله -تبارك وتعالى-، فالله له العلو، علو الذات، وعلو القدر المنزلة، وعلو القهر.

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وهذا يدل على أن هذا الكتاب أنه مُنزل من الله -تبارك وتعالى- مُباشرة، ولم يكن ذلك من قول البشر، أو أحد من الخلق، يعني: لم يكن من قول جبريل فهم المعنى عن الله -تبارك وتعالى- فعبّر به جبريل، أو أن جبريل ألقى المعنى على النبي ﷺ، فعبّر به النبي ﷺ كما يقول به بعض أهل البدع، وهذا من أعظم الباطل، وقد توعد الله من قال بأنه قول البشر قال: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26]، فهو كلام الله يتلقاه جبريل من الله مُباشرة ليس من بيت العزة ولا من اللوح المحفوظ، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، والأدلة في نزول الوحي تدل على هذا إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم [1].

ولذلك تجدون بعض العبارات عن بعض السلف الزُهري وعن غيره يقول: "أحدث آية في العرش آية الدين" [2].

أحدث آية بالعرش، ما قال باللوح المحفوظ، وما قال: في بيت العزة في السماء الدنيا، مما يدل على أن السلف كانوا يعتقدون أن جبريل يتلقاه من الله مباشرة، نعم القرآن نزل في اللوح المحفوظ كما قال الله : فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:22]، وكذلك أيضًا بِأَيْدِي سَفَرَةٍ [عبس:15]، صُحف في أيدي الملائكة فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:13-16]، وكذلك أيضًا هو في بيت العزة في السماء الدنيا كما جاء عن ابن عباس بأسانيد صحيحة[3] وهو مما لا يُقال من جهة الرأي، فهذا كله على كل حال يؤخذ من قوله: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:3].

لا زال الحديث متصلاً بصدر هذه السورة -سورة آل عمران-: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:3]، أي: من الكتب التي أنزلها على أنبيائه -عليهم الصلاة والسلام-، فخص إنزال الكتاب على النبي ﷺ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، وذلك أن كل من أدرك النبي ﷺ فهو مُطالب بالإيمان به، ولذلك خص المُنزل عليه بهذه الآية نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، يعني: أنه نزله تنزيلاً مُتلبسًا بالحق، وذلك لما اقتضاه علمه وحكمته، ولما تضمنه هذا الكتاب من الحق فيما يتصل بالمعبود، جل جلاله وأوصافه، وكذلك أيضًا ما يتعلق بحقائق الإيمان وشرائع الدين، فكل ذلك داخل فيه، والله تعالى أعلم.

لكنه قدم هنا الجار والمجرور عَلَيْكَ لإفادة الحصر، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، ويُلاحظ هنا أن الكتاب المُنزل على النبي ﷺ جاء هكذا "الكتاب" بإطلاق فصار علمًا بالغلبة كما يقولون، وذلك لاسيما مع دخول أل على الكتاب لشهرته وشرفه وكماله ومنزلته، فهو لا يحتاج إلى تقييد من أجل أن لا يلتبس بغيره من الكتب، فإذا أُطلق الكتاب فليس له في ذلك مُنازع، كما هو الحال على سبيل المثال -مع الفارق- النُحاة، وأهل النحو إذا قيل "الكتاب" فهو كتاب سيبويه -رحمه الله- لشهرته وذيوعه، ومنزلته عندهم، فهذا تقريب للمُراد، وإلا فالكتاب الذي يستحق الوصف الكامل هو القرآن الكريم.

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فهذا الكتاب مُتقدم على سائر الكتب، وقد تميز فهو أشرفها، وأعظمها، وأجلها، وذكر صفة هذا الكتاب أنه مُصدق لما بين يديه، وذكرنا ما في التنزيل من معنى العلو، وأن جبريل تلقاه أيضًا من الله مُباشرة.

وكذلك أيضًا لفظ التنزيل "نزّل" يدل على التكثير، وأن ذلك يُفهم منه التنجيم، كما ذكرنا في الليلة الماضية، كذلك لفظة "على" فإنها تُفيد الاستعلاء تدل على معنى الاستعلاء نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، وهذا فيه ما فيه من التشريف للنبي ﷺ والتكريم والتفضل والامتنان.

ووصف هذا الكتاب بقوله: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:3]، "مُصدقًا" هذا فيه ترغيب وحث لأهل الكتاب على الإيمان بهذا المُنزل، فهو مُصدق لما معهم.

ويؤخذ من ذلك: أن من أراد أن يدعو غيره، أو أن يُخاطبه بشيء أن يأتيه من الباب الذي يقبل منه، ولهذا يقولون في الحوار والمناظرة: أن الانطلاق والابتداء يكون من مواقع الاشتراك والاتفاق، يعني: لا يُبدئ بما يكون فيه الافتراق، فينفر الطرف الآخر ولا يستمع، لكن تبدأ معه بشيء مشترك تتفق معه عليه، وتقول: نحن نؤمن بهذه الكتب التي أنزلها الله ، نؤمن بكتابكم، نؤمن بالتوراة، نؤمن بالإنجيل، نؤمن بأنبيائكم ونُجلهم ونُعظمهم، فنحن نتفق على هذا، ثم بعد ذلك تنتقل معه إلى الإيمان بالقرآن الذي يُنازعون فيه، فابتدئ بهذا، فهذا الكتاب مُصدق لما بين يديه فهذا يدعوهم إلى الإيمان به، والإنصات إليه.

ثم قال بعد ذلك: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ، لاحظ هنا في التوراة والإنجيل قال "وأنزل"، باعتبار أنها نزلت دفعة واحدة، ولم تنزل مُنجمة، وحينما ذكر التوراة والإنجيل جمعها في إنزال واحد "وأنزل التوراة" ما قال وأنزل التوراة وأنزل الإنجيل، لكن في القرآن نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وعلى القول بأن الفرقان الذي ذُكر بعدهما أنه هو القرآن أيضًا قال: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4]، فخصه بالتنزيل، وجمع بينهما في إنزال واحد وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران:3]؛ لأن ذلك ليس هو المقصود، يعني: الدعاء إلى الإيمان بالتوراة والإنجيل، وإنما المقصود هو القرآن.

فهذا كما ذكرنا هو مفتتح ومُبتدئ الرد على النصارى، ودعوة النصارى إلى الإيمان، كما قلنا بأن صدر هذه السورة العلماء كابن جرير وغيره -رحمهم الله- يقولون: إن أول هذه السورة، بل إن بضعًا وثمانين آية في أول سورة آل عمران هي في وفد نصارى نجران لما قدموا على النبي ﷺ جاء وفدهم، ثم بعد ذلك دعاهم النبي ﷺ إلى الإسلام فأبوا وعرض عليهم المُباهلة نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ [آل عمران:61].

فهذا تدل عليه هذه الآية، وإن كانت الرواية الواردة في ذلك لا تخلو من ضعف، لكن ظاهر الآية مع مجموع هذه الروايات يُشعر بأن ذلك له أصلاً، لكن الروايات إذا نظرت إليها بأفرادها هي لا تخلو من ضعف من جهة الإسناد، على تعدد هذه الروايات وتنوعها واختلاف ألفاظها.

يعني: وفد نصارى نجران لما جاءوا وعُرض عليهم المُباهلة، لكن الآية صريحة في المُباهلة فيدل على أن ذلك بمجموعه قد يتقوى، ويُشعر بأن ما جرى مع الوفد له أصل، وأنهم رفضوا المُباهلة وخافوا من نزول العذاب بهم إذا باهلوا النبي ﷺ فقبلوا أن يدفعوا الجزية، وصالحوا النبي ﷺ، وأرسل معهم أبا عُبيدة بن الجراح [4] وكان أيضًا قد جاءهم المغيرة بن شعبة [5].

فالحاصل أن العلماء يقولون: بأن بضعًا وثمانين آية في صدرها نزلت في وفد نصارى نجران، وعلى كل حال هذا السياق الطويل إنما هو في النصارى كما هو ظاهر، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران:3].

لاحظ قال: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:3] "ما" تفيد العموم فهذا يشمل سائر الكتب بما فيها التوراة والإنجيل، ولكنه خص التوراة والإنجيل؛ لأن المُخاطبين ممن يُذعنون ويؤمنون بهذه الكتب، الخطاب مع النصارى فخص التوراة والإنجيل، ولأن التوراة والإنجيل على كل حال هي من أشهر الكتب المُنزلة على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، ولذلك ورد ذكرها كثيرًا ربما يكون لهذا السبب، وقد يُقال: بأن ذلك لوجود الأمتين اليهود والنصارى، وأن هؤلاء أقرب إلى هذه الأمة من جهة الزمان والتاريخ، وكذلك أيضًا أن هؤلاء من اليهود والنصارى كانوا قريبين في جزيرة العرب، اليهود في نواحي المدينة، ولهم وجود في نواحي أخرى في خيبر وفي اليمن.

وكذلك النصارى كانوا يوجدون في نجران، وفي أطراف جزيرة العرب، فكذلك أيضًا امتداد الجدال والصراع أيضًا إنما هو مع هاتين الأمتين بالدرجة الأولى، فالمشركون في مكة -العدو التقليدي كما يقال- انتهى، وإن بقي الإشراك إلى ما شاء الله على تنوع الملل والنِحل والأديان لأهل الشرك إلا أن اليهود والنصارى بقوا وهم باقون، وقد أخبر النبي ﷺ أن الساعة تقوم والروم أكثر الناس[6] وأخبر أن الروم ذات القرون[7] بخلاف دولة فارس التي قد انقرضت وانتهت منذ بداية الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ، قضى على ملك فارس، ولذلك يُبغضونه بغضًا شديدًا، هو العدو اللدود؛ لأنه هو الذي أنهى دولة آل ساسان وقضى عليها قضاء مُبرمًا، فهو أكثر من يُعادونه، يعني: يُبغضونه أكثر مما يُبغضون النبي ﷺ، ويُبغضون بقية الخلفاء الراشدين؛ لأنهم يرون فيه انقضاء ذلك الملك الذي امتد آلاف السنين، دولة كبرى بقيت مدة طويلة، وقد تفوقت على دولة الروم في مراحل في التاريخ، وكادت في بعض الصراعات أن تقضي على ملك الروم ووصلوا إلى الشام، بل وصلوا أيضًا إلى نواحي ملكهم بالقسطنطينية، والتاريخ فيه أشياء من هذا معروفة، وأنزل الله في ذلك الم ۝ غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم:1-2]، الذين غلبوهم هم الفُرس، انتصروا عليهم ذلك الانتصار المعروف في التاريخ الذي أشار إليه القرآن.

كذلك أيضًا وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران:3] هذه فيه أيضًا للقرآن حيث قدمه عليها، قدم المُنزل على النبي ﷺ على التوراة والإنجيل مع أنها نازلة قبله من الناحية التاريخية، ولا شك أن القرآن هو أشرف الكتب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنه هو الكتاب الذي يُطالب الناس بالإذعان والإيمان به، فقدمه وإنما ذكر التوراة والإنجيل لاستدعاء إيمان هؤلاء من جهة، ولبيان أن هذا الكتاب -يعني القرآن- ليس ببدع من الكتب فقد سبقه التوراة والإنجيل، وذلك أيضًا فيه ما فيه من التصديق لهذا الكتاب، وأنه مُصدق لخصوص ما جاء بالتوراة والإنجيل، يعني: هو مصدق لما بين يديه، فهذا يشمل سائر الكتب، ولكن الأخص التوراة والإنجيل، وكذلك أيضًا هنا حينما يكون مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل فإن ذلك يعني سوء حال من كفر بالقرآن، الذي يُصدق هذه الكتب التي يؤمنون بها، ففيه إبراز لقُبح حالهم وسوء فِعالهم، وما هم عليه من الضلال والكفر بالقرآن.

كذلك أيضًا لم يذكر هنا وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران:3] ما قال وأنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى -عليهما السلام-، باعتبار أن المقصود إنزال هذه الكتب وليس الكلام عن من أُنزلت عليه، لكن النبي ﷺ هم مُطالبون بالإيمان به، وهم يجادلون في نبوته، وفي الكتاب الذي أُنزل عليه فهنا لم يذكر المُنزل عليه التوراة والإنجيل، قال: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران:3] فهذا الكتاب مُصدق للتوراة والإنجيل، وهذه الكتب أنزلها ربنا -تبارك وتعالى- على هؤلاء الأنبياء العِظام -عليهم السلام- فهذا كتاب أُنزل أيضًا على هذا النبي -عليه الصلاة والسلام- فليس ذلك بمُستغرب.

كذلك أيضًا وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران:3] ذكرنا من قبل بأن تصديق هذا الكتاب للكتب التي قبله من جهات متعددة حيث أنها أخبرت به فجاء موافقًا لخبرها لصفة النبي ﷺ وصفة هذه الأمة.

وكذلك هو يُصدقها باعتبار أنه يُقرر ما فيها من شرائع الدين العِظام وأصوله الكبار، وكذلك في صفات المعبود ، وكذلك في الأخبار التي تضمنها وتضمنتها تلك الكتب مما يوجد من التوافق بينها، وكذلك التصديق بهؤلاء الرسل الذين أُنزلت عليهم تلك الكتب -عليهم السلام-، فهي شاهدة بصدقه وهو شاهد أيضًا بصدقها، فتصديق ما جاء فيها من أخبار بخصوص النبي ﷺ وما فيها من أخبار أيضًا عن الأمم السابقة وغير ذلك كل ذلك جاء القرآن مُصدقًا له، فاللائق أن يؤمنوا به، وأن يروا بُرهان صدقه، ولا يكون مقابلة ذلك بالكفر والتكذيب والعداوة، فهم لا يتمكنون من الإيمان بكتبهم الإيمان الصحيح إلا إذا آمنوا بهذا القرآن، وتكذيبهم به هو تكذيب بهذه الكتب جميعًا.

وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران:4]، فقدم التوراة على الإنجيل، يمكن أن يُقال -والله أعلم: باعتبار أن التوراة هو كتاب الشريعة لبني إسرائيل هو الكتاب الأكبر هو الكتاب الأعظم، وموسى الذي نُزل عليه التوراة هو كبير أنبيائهم ، فذكر التوراة والنصارى مُطالبون بالإيمان بالتوراة والعمل بها، ففيها الشريعة، وعيسى جاء بالإنجيل، وبنسخ بعض الآصار والأغلال التي كانت على اليهود.

وكذلك أيضًا جاء بأمور مُكملة، ويقولون: بأن الإنجيل يشتمل في جملته في الغالب، يعني: على الحِكم والأخلاق ونحو ذلك، لكن لا يستغنون عن التوراة والعمل بها؛ لأن القانون والشريعة مُضمن في التوراة، لكن العلماء يقولون كما قال ابن كثير -رحمه الله-: بأن اليهود لما اتهموا عيسى بما اتهموه به، وحاولوا قتله، وكفروا به، فوقعت العداوة الشديدة بين اليهود والنصارى، فالنصارى لشدة عداوتهم لليهود نبذوا التوراة والعمل بها فبقوا بلا قانون ولا شريعة، فابتكروا واخترعوا نظامًا وقانونًا سموه "الأمانة العظمى"، هذا وضعوا فيه قوانين تحكم نظامهم وحياتهم؛ لأنهم بقوا بلا نظام يحكمهم، فوضعوا قانونًا وضعيًّا بدلاً من التوراة، تركوا العمل بالتوراة واستعاضوا عنه بزُبالة الأفهام وسموه "الأمانة العظمى"، وإلا فهم مطالبون بالعمل بها حتى جاء القرآن فصار العمل به مُتعينًا على الجميع والإيمان به متعينًا على الجميع. 

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ۝ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:3-4].

فقوله -تبارك وتعالى-: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ۝ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ، أنزل التوراة والإنجيل، كما ذكرنا أنه قدّم التوراة باعتبار أنها متقدمة من ناحية الزمان على الإنجيل، وأيضًا فهي الأصل والأساس فهي كتاب الشريعة، وهي الكتاب الأعظم الذي نزل على بني إسرائيل، وعلى كبير أنبيائهم وهو موسى ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ۝ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ، وبعض أهل العلم يقولون: بأن الفرقان هو الزبور، وهذا لا يخلو من بُعد، ولكن على هذا القول يقولون بأنه ذكر نزول التوراة مع أن الترتيب أن التوراة نزلت، ثم الزبور، ثم الإنجيل، فيقولون: جاء هذا الترتيب بحسب الأهمية، فالتوراة هي الكتاب الأكبر والأعظم، والإنجيل يلي التوراة فهو مُكمل لها وناسخ لبعض الآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل، ثم جاء ذكر الزبور مع أنه متقدم على الإنجيل، فالإنجيل يقولون يشتمل على كثير من الأحكام والحِكم، والزبور يشتمل على كثير من الثناء على الله -عز وجل- ونحو ذلك، لكن الأرجح أن الفرقان لا يُفسر بالزبور، وبعضهم يقول: هو القرآن وهذا قريب، وله وجه باعتبار أن من أسماء القرآن الفرقان، والله -تبارك وتعالى- تمدّح بإنزاله كما في صدر سورة الفرقان، لكن على هذا التفسير وقد ذهب إليه كثير من أهل العلم أن الفرقان هو القرآن وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4]، فيكون قد كرر ذكره نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:3]، فهو القرآن، ثم قال: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4]، فيكون قد كرره فيكون هذا التكرير لتنويه بشرفه ومنزلته من جهة، ولأنه ذكر وصفًا يختص به، وهو أنه يحصل به الفرق الفصل بين الحق والباطل، فليس ذلك بتكرار محض، وإنما لفائدة وهي ذكر هذه الصفة للقرآن وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4].

وكثير من السلف فمن بعدهم يقولون: بأن الفرقان هو وصف للكتب التي أنزلها الله  لما فيها من الفرق والفصل بين الحق والباطل، فذلك يصدق على القرآن ويصدق على غيره، فأنزل الفرقان الذي قد تضمنته هذه الكتب، فيكون ذلك بعد ذكر هذه الكتب في غاية المناسبة وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4]، فذكر الكتب المشهورة، والكتب العِظام هذه الكتب الثلاثة القرآن والتوراة والإنجيل، ثم قال: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ما يحصل به الفصل بين الحق والباطل والميز بين المُحق والمُبطل، فذلك وصف لهذه الكتب جميعًا.

لكن تأمل هذا القيد المذكور في قوله: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ۝ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ، هذا كالاحتراز لئلا يُفهم أن التوراة والإنجيل هي هدى دائم ومستمر، وإنما هي في مرحلة من المراحل، ثم جاء القرآن فكان هو الهدى الذي ينبغي أن يهتدي الناس به، ولذلك لما رأى النبي  ﷺ مع عمر بن الخطاب صحيفة من التوراة غضب، وقال: أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيّا، ما وسعه إلا أن يتبعني [8]

فدل على أن التلقي إنما يكون من الوحي الذي نزل على محمد ﷺ وهو القرآن وما يشرحه من سنة رسول الله ﷺ فحسب، دون البحث عن مصادر أخرى قد نُسخت وحصل ما حصل لها من التبديل والتغيير والتحريف، فذلك ما فيها من الحق والهدى والنور والضياء والخير فهو موجود في كتاب الله -تبارك وتعالى- في القرآن، وفي سنة رسول الله ﷺ، فكل هدى عندهم فهو موجود على أكمل الوجوه فيما أوحاه الله إلى نبيه ﷺ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: كل ما عند هؤلاء من الخير والهدى والصلاح، فهو على أوفر الوجوه وأكملها في هذه الشريعة.

إذًا لا حاجة للبحث كما يقول بعض الناس: نأخذ الإيجابيات التي عندهم، أي إيجابيات!  أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب ... والله لو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي.

فإذًا هذا الذي يريد أن يبحث هنا، وهناك في مصادر أخرى، عندهم إيجابيات، عندهم جوانب مشرقة، عندهم نصف كأس مليان، نقول: أمتهوكون فيها، إذا كان هذا النبي ﷺ يقولوه لعمر ومعه صحيفة من التوراة، فماذا يُقال لهؤلاء إذًا؟ فهذه الشريعة كاملة ما تحتاج إلى تكميل.

هذا الذي يبحث عن إيجابيات، ويقول: عندهم جوانب مشرقة، ويريد أن يأخذ من هؤلاء ومن البوذيين، ومن غيرهم يُقال له هذه الشريعة جاءت على الكمال، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، الأمور الثلاثة هذه لا يعدلها شيء، ثم بعد ذلك يُبحث عن ما يُكمل، نأخذ الجوانب الإيجابية عند هؤلاء ونقرأ في كتبهم، ونبحث هنا وهناك في كتب أيضًا للفلاسفة، وما إلى ذلك من المعاصرين والقدماء؛ لنُكمل كأننا نُعاني من نقص نبحث عن تكميله في هذه الكتب والمصادر والفلسفات القديمة والحديثة، هذا غلط، ولا يجوز بحال من الأحوال.

وكذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن ما يوجد عند الطوائف الأخرى الطوائف الفِرق، يعني: المنحرفة من المعتزلة، والرافضة، والصوفية، وغيرهم ما يوجد عندهم من حق، فهو عند أهل السنة على أكمل الوجوه مع السلامة من باطلهم.

ولذلك بعض الناس يقول عندهم جوانب إيجابية نريد أن نأخذ الجوانب الإيجابية، بل بعضهم يُصرح للأسف بأكثر من هذا يقول: لا يوجد طائفة تحتكر الحق وتدعي أنها قد تمثل الحق فيها واكتمل لكن هؤلاء عندهم حق، وهؤلاء عندهم حق، وهؤلاء عندهم حق، والمفترض أننا نجمع الحق الذي من الجميع، يريد أن يجمع الحق من الجميع ممن؟!

أهل السنة هم الذين يمثلون الإسلام الصحيح الذي جاء به النبي ﷺ، والغرب يعلمون هذا جيدًا، وقد قرأت لبعض مفكريهم وعُقلائهم في القرن الماضي يوصف هذه الأمة وما هي عليه فيقول: "توجد هناك خطوط وآراء ومذاهب وفِرق، لكن يوجد بين هذه الخطوط الكثيرة خط واحد مستقيم من عهد النبي ﷺ إلى اليوم".

يقصد أن أهل السنة والجماعة هو هذا الخط المستقيم، وهذه فِرق تنشعب هنا وهناك، فيقول: هذا هو الذي يُمثل الإسلام، وهو الذي يُمثل بزعمه الخطر على الغرب، يعني: هذا الإسلام الحقيقي الذي حصل عن طريقه الفتوحات وهداية الخلق إلى دين الله -تبارك وتعالى-، أما هذه الفِرق الخوارج، الرافضة إلى آخره، هذه مثل الطُفيليات تعيش على جسم الأمة ما فتحوا مِصرًا من الأمصار، ما فتحوا بلدًا واحدًا، ولا يوجد منهم قائد واحد.

انظر إلى هؤلاء الخوارج الذين الآن يُفسدون ويعيثون في الأرض فسادًا إذا أردت أن تعرف الحقيقية انظر عبر التاريخ خروج هؤلاء في أوقات كثيرة ومختلفة في بلاد وأنحاء بلا استثناء ماذا فعلوا؟ وماذا أنجزوا؟ وماذا بنوا من نهضة وحضارة؟ وماذا فتحوا من البلاد؟ سمي قائدًا واحدًا من قادة المسلمين الذين فتحوا البلاد، سمي لي فتحًا واحدًا، بلدًا واحدًا فتحوها؟ ما في.

فالمعاصرون أسوء من القُدامى، القُدامى قرأت في تاريخهم كثيرًا، لم أقف على أحدٍ منهم أنه قتل أباه وأمه أبدًا، كانوا يقتلون خيار الأمة، يذبحونهم ذبحًا، لكن يقتل أباه وأمه ما أعرف أبدًا في التاريخ، على كثرة فِرق الخوارج، فِرق كثيرة جدًا، لكن ما أعرف أحدًا منهم وصل إلى هذا المستوى من الانحطاط والسفول أبدًا، إضافة إلى الغدر، وذهاب المروءات والكرامة وقلة الدين والعبادة، حتى إنه يلتبس هل هذا يفعل ذلك تدينًا أو أنه عدو للإسلام قد لبس عباءة جهاد ليُفسد في الأرض، ويُسيء إلى الإسلام، ويصد عن سبيل الله .

وهكذا في الطوائف الأخرى من الرافضة ونحوهم ما يوجد بلد واحد فتحوها، ولا يوجد واحد من قادة المسلمين من هؤلاء أبدًا، وإنما كانوا ينهشون في جسد الأمة، ولذلك الغرب ومنذ القِدم كان يدعم ويقوي هذه الطوائف، وهذا إلى اليوم، من الذي أخرج هؤلاء؟! ومن الذي يدعمهم؟ ومن الذي يقف معهم في مثل هذه الأوقات؟ لا شك أن أعداء الإسلام وراء هؤلاء؛ لأنهم يعلمون أنهم يُجرجرون الأمة، ويُشتتون شملها، ويسحبونها إلى الوراء، ويطعنونها في الظهر للأسف، القضية في غاية الظهور والوضوح، ولكن من أعمى الله بصيرته وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة:41]، العمى الكامل عمى البصائر -نسأل الله العافية- على كل حال فهنا قال: مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران:4].

إذًا الاهتداء بالتوراة والإنجيل كان في مرحلة قبل نزول القرآن، وقبل بعث النبي ﷺ، بعد ذلك قال النبي ﷺ: والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار [9]

يعني: لا ينفعه الإيمان بالتوراة والإنجيل والعمل بالتوراة والإنجيل إذا لم يؤمن بالنبي ﷺ، ويُعلن الدخول في الإسلام، ويهتدي بهداه.

ثم أيضًا وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ۝ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران:3-4] "من قبل" فكأنها توطأة وتمهيد لنزول القرآن ولذكره، فيذكر أنه أنزلها من قبل، ثم جاء الهدى الكامل بهذا القرآن  إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].

وكذلك أيضًا هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران:4]، يعني: من أجل الهدى، من أجل الاهتداء، وهذا يدل على معنى وهو إثبات الحكمة في أفعال الله -تبارك وتعالى-، عليم حكيم أنزلها من أجل الهدى، من أجل أن يهتدي الناس، وكذلك أيضًا وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران:3]، ومعلوم أن التوراة والإنجيل قبل القرآن، لكنه قال: مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران:4]، من باب المبالغة في التحقيق أن ذلك كان قبل القرآن، ثم جاء الهدى الكامل الذي يجب أن يوقف عنده.

وكذلك أيضًا لاحظ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ۝ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران:3-4]، هنا لما ذكر التوراة والإنجيل ذكر الهدى، لما ذكر القرآن قبله نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:3] باعتبار أن المخاطب هنا أهل الكتاب النصارى، فمن أجل استرعاء نظرهم ودعوتهم، واستمالتهم إلى الحق ذكر أن هذه الكتب هدى للناس من أجل أن يقبلوا الإيمان والإذعان، ويحصل منهم الإذعان إلى الإسلام والإيمان بالقرآن، وإلا فالقرآن هدى بلا شك.

ولاحظ الفرق هنا في التوراة والإنجيل، قال: هُدًى لِلنَّاسِ بمعنى الإرشاد والدلالة إلى الحق والخير ونحو ذلك، هُدًى لِلنَّاسِ لكن لما ذكر القرآن في صدر سورة البقرة قال: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ  [البقرة:2]، التوراة والإنجيل هدى للناس، هو مُرشد لكل الناس إلى الحق ونحو ذلك، ولكن القرآن هدى للمتقين، فالتوراة والإنجيل باعتبار أنها مُهيأة ومُعدة لذلك يهتدي بها من يهتدي، أما القرآن فهو هدى لأهل التقوى.

وكما ذكرنا هناك هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، قلنا: الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فبقدر ما يكون عندنا من التقوى يحصل لنا من الاهتداء بالقرآن والانتفاع به، ولاحظ أنه لما ذكر التوراة والإنجيل قال: هُدًى لِلنَّاسِ فكأنه جعلها هي الهدى، كأنه جعل من باب المبالغة في الوصف هُدًى لِلنَّاسِ ما قال مثلاً تتضمن هدى أو فيها هدى فكأنه جعلها هدى، وهكذا القرآن بعبارة أبلغ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، فهذه كلها تدل على مُبالغة في الوصف.

وكذلك وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4]، وقلنا بأن أكثر أهل العلم يقولون: بأن الفرقان هنا ما يحصل به الميز والفرق بين الحق والباطل، وهنا قال: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4] فالكتب تُفرق بين الحق والباطل، الوحي الذي أنزل الله على أنبيائه -عليهم الصلاة والسلام- يحصل به الفرق بين الإيمان والكفر، وبين المؤمنين والكفار ونحو ذلك، فهذا يصدق عليها جميعًا، ويحصل به الميز بين الصادق والكاذب، والصدق والكذب، والضار والنافع، وما إلى ذلك، وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4].

وهذا أخذ منه بعض أهل العلم إثبات القياس، القياس الذي عند الفقهاء مثلاً يسمونه قياس التمثيل هو إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما، يعني: في شيء مشترك، والقياس الآخر قياس الأولى يسمونه عند الأصوليين هو الألحاق بنفي الفارق، لا فرق بين هذا وهذا، يعني: كل ذلك داخل فيه، فمثلاً في قياس الفقهاء لا فرق بين المُسكر من عصير العِنب مثلاً والمُسكر من المصنوعات الكحولية، فهذا لا فرق لأنه يحصل بالجميع الإسكار، يعني: صنوف المُسكرات في ذلك الوقت اختلفت عن ما يُصنع في هذا الوقت، فتُلحق به من باب الاشتراك في العِلة وهي الإسكار.

في الوالدين: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، والشتم من باب أولى، والضرب من باب أولى، والقتل -أعوذ بالله- من باب أولى، فهذا يُسمى قياس الأولى، يسمونه القياس الأولوي، يعني: أن ذلك يُلحق به من باب أولى، وهكذا، ولذلك قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7]، والذي يُنفق نفقة مثل الجبل من باب أولى خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [ الزلزلة:8]، يعني: من الشر، طيب والذي يعمل أعظم من الذرة من كبائر الذنوب من باب أولى، شرًا يره، وهذا أمر مُدرك بالفِطر والعقول يسمونه قياس الأولى، يعني: ما يحتاج إلى الأركان الأربعة في القياس بألحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما، أن تتوفر الأربعة الأركان، لا، إلحاق مُباشر من غير نظر إلى ذلك، وهكذا.

فهذه الكتب وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4] يفرق بين الحق والباطل، فهذه الكُتب تُفرق بين الهدى والضلال والنافع والضار، ولكنها في الوقت نفسه لا تُفرق بين المُتماثلين، وإنما تُفرق بين المختلفين، أما المُتماثلان فإنها لا تُفرق بينهما؛ ولأن المُتماثلين لا يختلفان، وذلك يرجع إلى معنى العدل والميزان الذي أنزل الله -تبارك وتعالى-، والقياس الذي أخذه الفقهاء من ذلك كله.

ولاحظ تكرار لفظ التنزيل نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:3]، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ [آل عمران:3]،  وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4] فكرر هذا الفعل الإنزال فهذه الكتب كلها مُنزلة وما فيها من الهدى والنور، وكررها لاختلاف هذا الإنزال من جهة نوعه وكميته وزمانه وصفته، والله تعالى أعلم. 

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- إنزاله لهذه الكتب الثلاثة، وعقب بعد ذلك بإنزال الفرقان الذي يحصل به الفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال، قال الله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4].

فهذه الآيات المُنزلة الكتب التي تضمنت الهدى الكامل من الله لعباده، فإن الذين يكفرون بها متوعدون بالعذاب الشديد، فكان في ذلك الإخبار بإنزال هذه الكتب الدعاء إلى الإيمان بها، والعمل بمقتضاها، فجاء هذا التهديد والوعيد لمن كفر لاسيما أن الخطاب كما سبق في صدر هذه السورة في بضع وثمانين آية موجه إلى النصارى، فيتوعدهم بعد هذه المقدمات التي تستدعي الإيمان إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:4]، فذكر الكفر مع الاسم الموصول الَّذِينَ كَفَرُوا كل ذلك لإظهار متعلق الوعيد، وأن ذلك مُسبب عن الكفر، فمن وقع في شيء من ذلك بالكفر بأحد هذه الكتب كالقرآن فله عذاب شديد.

وهذه اللفظة "شديد" فيها معنى الشد والتضييق، وعذاب جهنم لا شك أنه بهذه المثابة وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان:13]، وذلك يكون كحال المشدود الذي ألمه مُضاعف لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [آل عمران:4]، والله -تبارك وتعالى- وصف العذاب بالشدة، ووصفه بأنه أليم أيضًا في مواضع كثيرة من كتاب الله -تبارك وتعالى-، وهذا الألم يقع على الأجساد كما يقع على الأرواح، ووصفه أيضًا بأنه مُهين، وذلك واقع على الأرواح فيجتمع لهم هذا وهذا، كما قال الله -تبارك وتعالى-: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48]، فالسحب على الوجوه لا شك أنه في غاية الإيلام مع الإهانة.

وما يكون لهم مع ذلك من التبكيت ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فيحصل لهم من ضروب الإهانة الشيء الكثير، فيحصل الألم للأجساد والأرواح.

وعلى كل حال هذا قد توعد الله -تبارك وتعالى- به من كفر بآياته، وهذا العذاب الشديد لم يُقيد أنه في النار، أو في الآخرة، فيبقى على إطلاقه، قد توعدهم بالعذاب الشديد، فيكون ذلك في الدنيا بما يقع عليهم من المصائب والآلام والعقوبات العامة والخاصة، وكذلك ما يقع لهم على أيدي أهل الإيمان من إدالتهم عليهم والقتل والأسر.

وهكذا أيضًا ما يقع لهم في البرزخ، وما يقع لهم في القيامة، وما يقع لهم في النار، فيكون هكذا بهذا الإطلاق -والله تعالى أعلم.

وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4] "عزيز" فهذا اسم، من أسمائه العزيز، وهو يتضمن صفة العزة، وصفة العِزة من الصفات الجامعة، الصفات الجامعة هي التي تجمع معانٍ وأوصاف حتى يتحقق هذا الوصف، كما ذكرنا في الكلام على الأسماء الحسنى في مناسبات شتى، كاسمه -تبارك وتعالى-: "المجيد" فهذا يتضمن صفة المجد، وهي من الصفات الجامعة.

فالعزة والمجد وما أشبه ذلك مما لا يتحقق إلا بمجموع أوصاف كل ذلك يُقال له صفة جامعة، يعني: العزة لا تتحقق بمجرد القوة، فقد يكون قويًّا لكنه ليس بعزيز، ولا تتحقق بمجرد الغنى فقد يكون غنيًّا ولكنه في غاية الذُل، وإنما تكون العزة بمجموع ذلك فيكون له من العظمة والقوة، وما أشبه ذلك بحيث إنه لا يُضام ولا يُرام، فهذا العزيز.

عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4] هنا ما قال: والله عزيز مُنتقم، وإنما قال: عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ، وذو بمعنى صاحب، والفرق بين المقامين أن العزة صفة مُطلقة من أوصاف الله يوصف أنه العزيز ويُسمى بالعزيز، يوصف بالعزة ويُسمى العزيز، ولكن الانتقام ذلك وصف مقيد، وليس بمطلق يعني هو مُنتقم ذو انتقام صاحب انتقام، مُنتقم من المجرمين، منتقم من الكافرين ونحو ذلك، لكن الانتقام لا يكون كمالاً بإطلاق إلا إذا كان في الموضع الذي يكون كمالاً فيه، فهنا قال:  وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4]، ما قال منتقم بهذا الإطلاق كما قال عزيز فيكون ذلك مقيدًا حيث يصلح الانتقام وحيث يكون كمالاً.

ثم التعبير هنا بذو ذُو انْتِقَامٍ ولم يقل صاحب، ولا يوجد في موضع واحد في كتاب الله -تبارك وتعالى- التعبير بصاحب مع أن أهل اللغة يُفسرون هذا بهذا، ذو بمعنى صاحب، ولكنه في القرآن جاء بهذه الصيغة بهذه اللفظة، وذلك أبلغ -والله تعالى أعلم- أبلغ من الوصف بصاحب، يقولون: بأن ذو لا تأتي إلا مُضافة إلى اسم فيكون مدلولها أبلغ ذُو انْتِقَامٍ.

وكذلك أيضًا هنا وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ بعد هذا الوعيد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4]، فهنا ذكر العزيز مع ما بعده من وصفه بأنه ذو انتقام هذا فيه وعيد بالانتقام والأخذ لهؤلاء المكذبين الكافرين.

فهذا الختم والتذييل لهذه الآية بهذه الأوصاف لا شك أنه يتضمن وعيدًا فهو قادر على أخذهم، فالوعيد في قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ، لا يتحقق إلا لمن كان عزيزًا، ومن كان قادرًا على الأخذ والانتقام من هؤلاء، وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ وجاء بهذا الاسم الكريم الذي هو أعظم الأسماء كما سبق وأظهره لتربية المهابة ولما في ذلك من التعظيم والتفخيم.

والآيات في هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [آل عمران:4]، التي توعد على الكفر بها الذي يظهر -والله أعلم- أنها تشمل الآيات المتلوة، وذلك يدخل في هذه الآيات دخولاً أوليًّا؛ لأنه ذكر إنزال الكتب التوراة والإنجيل والقرآن، فهذه آيات متلوة، ويدخل فيه أيضًا الآيات التي هي الدلائل والبينات والبراهين التي يُظهرها على يد أنبيائه ورسله -عليهم الصلاة والسلام- لبيان وإظهار صدقهم، كالآيات التي أعطاها الله لموسى ، والآيات التي كانت للرسل -صلوات الله عليهم وسلامه-، وكذلك ما أعطى الله نبيه ﷺ، فهذه الآيات كانت ظاهرة لا تلتبس، ولكن أكثر أولئك الأقوام كفروا بها كما قص القرآن إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ.

وإنما ذكرنا ذلك؛ لأن آيات هنا جمع مُضاف إلى معرفة وهو الاسم الظاهر لفظ الجلالة بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:4]، ومثل هذا هو من صيغ العموم كما هو معلوم بِآيَاتِ اللَّهِ، والأصل بقاء العام على عمومه إلا لدليل يُخصصه، لكن السياق هنا دل على أن هذه الآيات المقصود الأولي بها هي الآيات المتلوة لذكر الكتب قبلها، ولكن يدخل فيها أيضًا الآيات التي هي دلائل التي يسمونها المعجزات براهين صدق الأنبياء وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء:59]، يعني: آية مُبصرة وليس معناها أن الناقة مُبصرة فَظَلَمُوا بِهَا [الإسراء:59]، يعني: بالتكذيب.

  1. أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في القرآن، رقم: (4738).
  2. تفسير الطبري (6/ 41).
  3. منها ما جاء في المستدرك للحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: "أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، فكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئا، أوحاه، أو أن يحدث منه في الأرض شيئا أحدثه".
  4. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران، رقم: (4380).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم، وبيان ما يستحب من الأسماء، رقم: (2135).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب تقوم الساعة والروم أكثر الناس، رقم: (2898).
  7. مصنف ابن أبي شيبة (4/ 206)، رقم: (19342).
  8. أخرجه أحمد، رقم: (15156).
  9. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، رقم: (153).